الأصحاح الثاني عشر
"فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ الشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ السِّنِينَ إِذْ تَقُولُ لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُور" (ع 1)
هذه المشورة مؤسسة على قدر ما أدركه وميزه سليمان. وهو أن الإنسان لا بد راحل من هذا المشهد على الرغم منه، كما قرر في ص 11: 8 أن الإنسان إن عاش سنين كثيرة. لا بد أن يتذكر أيام الظلمة الكثيرة القادمة، وحتى هذا الرحيل القهري ليس هو نهاية كل شيء، فلا بد من دينونة تعقب هذه الحياة الحاضرة. كما يقرر الرسول "وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة" (عب 9: 27).
"فاذكر خالقك" ترِد في الأصل العبري بصيغة الجمع؛ للدلالة على اشتراك الثالوث في الخلق كما في كل شيء. وهذه النصيحة للشاب ليذكر خالقيه- الله إلوهيم المثلث الأقانيم، في طياتها أركان رئيسية هامة.
أولاً: بما أن الله المثلث الأقانيم اهتم بي بهذا المقدار، فهو أمر يدعو إلى الرهبة والتأمل بورع "الله إلوهيم صانعي مؤتي الأغاني في الليل" (أي 35: 10).
ثانياً: بما أن الله هو صانعي، حتماً هو الذي أنشأني وتعهدني في كل مراحل حياتي من جنين في بطن أمي إلى طفل رضيع إلى الشباب، فهو صاحب الفضل الأول عليّ ألا يقودني هذا للرجوع إليه.
ثالثاً: بما أنه هو جابل روحي في داخلي، إذاً فالنهاية لا بد أن تكون إليه حيث تعود الروح إلى الذي أعطاها. وهذا يستلزم تصفية الحساب "استعد للقاء إلهك" (عا 4: 12) ولا يوجد استعداد إلا بيقينية حصولي على غفران إلهي لكل خطاياي "لَهُ- للرب يسوع المسيح- يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أع 10: 43).
لكن هنا الحكيم يقدم سبباً آخر هاماً للغاية، وهو تقدم الأيام ومجيء الشيخوخة، حيث لا يكون هناك التفكير الواعي السليم، بل كل شيء يرتبك ومن الصعب جداً تمييز صوت الرب الذي هو العامل الأول في الرجوع والتوبة، لذلك يسميها أيام الشر، إذ يفقد الإنسان لذته في كل شيء في الحياة وتخيم الكآبة المُرّة عليه. وهذا الوصف التفصيلي هو للشيخوخة البعيدة عن الله، أما الشيخوخة لحياة قُضيت في الشركة مع الرب وخدمة اسمه المعبود فهي رائعة "تاج جمال شيبة توجد في طريق البر" (أم 16: 31)، "يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَاماً وَخُضْراً لِيُخْبِرُوا بِأَنَّ الرَّبَّ مُسْتَقِيمٌ صَخْرَتِي هُوَ وَلاَ ظُلْمَ فِيه" (مز 92: 14، 15).
وكم من أمثلة عملية رائعة يقدمها الوحي لرجال كانت حياتهم في خدمة السيد المحبوب المعبود، وها هو التقرير عن أجسادهم في شيخوختهم "وَكَانَ مُوسَى ابْنَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَاتَ وَلمْ تَكِل عَيْنُهُ وَلا ذَهَبَتْ نَضَارَتُهُ" (تث 34: 7)، ولنسمع تقرير كالب بن يفنة " فَهَا أَنَا الْيَوْمَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً فَلَمْ أَزَلِ الْيَوْمَ مُتَشَدِّداً كَمَا فِي يَوْمَ أَرْسَلَنِي مُوسَى كَمَا كَانَتْ قُوَّتِي حِينَئِذٍ هَكَذَا قُوَّتِي الآنَ لِلْحَرْبِ وَلِلْخُرُوجِ وَلِلدُّخُولِ"(يش 14:10، 11).
"قَبْلَ مَا تَظْلُمُ الشَّمْسُ وَالنُّورُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَتَرْجِعُ السُّحُبُ بَعْدَ الْمَطَرِ" (ع 2)
يذكر الحكيم 4 مصادر للنور وهي خاصة بالشباب:
أولاً: الشمس، حرارة الشباب وحيويته وقوته ونشاطه "كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ هَكَذَا أَبْنَاءُ الشَّبِيبَةِ. طُوبَى لِلَّذِي مَلَأَ جُعْبَتَهُ مِنْهُمْ. لاَ يَخْزُونَ بَلْ يُكَلِّمُونَ الأَعْدَاءَ فِي الْبَابِ" (مز 127: 4).
ثانياً: النور، الذهن المتقد بالآمال والطموح والمشاريع.
ثالثاً: القمر، الجمال قبل أن تأتي التجاعيد وتحفر مجاري عميقة في الوجه.
رابعاً: النجوم، الأعمال اللامعة التي تلفت الأنظار. وإذ تذبل هذه المصادر الأربعة لنور الشباب، لا يبقى للنفس إلا الأمر المُرّ وهو الكآبة القاتلة المعّبر عنها بالسحب بعد المطر.
السحب هي الغيوم الكثيفة في الذهن، وتوقع الشر في كل خطوة وفي كل دقيقة، وهكذا تسيل الدموع حزناً وخوفاً، ولأنها ليست أمام عرش فلا منفعة لها، وهكذا تأتي السحب مرة أخرى أي الأفكار القاتمة وتدخل النفس في تلك الحلقة المفرغة بلا انقطاع.
"في يوْمٍ يَتَزَعْزَعُ فِيهِ حَفَظَةُ الْبَيْتِ وَتَتَلَوَّى رِجَالُ الْقُوَّةِ وَتَبْطُلُ الطَّوَاحِنُ لأَنَّهَا قَلَّتْ وَتُظْلِمُ النَّوَاظِرُ مِنَ الشَّبَابِيكِ" (ع 3)
تصوير رائع عجيب لانهيار قلعة جسم الإنسان أمام عوامل الشيخوخة فالأيدي- حفظة البيت- التي عملت كثيراً في أمور هذا الزمان ها هي ترتعش وتكاد تفشل تأدية واجبات الجسم.
والأرجل- رجال القوة- التي طالما ركضت بكل قوة وراء أمور العالم، ها هي تتلوى وتكاد تفشل في أقل الخطوات.
والأسنان والضروس- الطواحن- التي كانت تمون هذه القلعة العظيمة ها هي قد تداعت والأطعمة المفرومة والمهروسة هي التي تستعمل.
والعينان- النواظر- التي طالما جالت في كل مجال وراء الأمور المنظورة، ها هي لا تكاد ترى الأمور القريبة جداً.
"َتُغْلَقُ الأَبْوَابُ فِي السُّوقِ. حِينَ يَنْخَفِضُ صَوْتُ الْمِطْحَنَةِ وَيَقُومُ لِصَوْتِ الْعُصْفُورِ وَتُحَطُّ كُلُّ بَنَاتِ الْغِنَاءِ" (ع 4)
الباب يشير إلى الفم كما قال المرنم "اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِساً لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ" (مز 141: 4) أي يثقل الكلام مع أي " (مز 141: 4) أي يثقل الكلام مع أي إنسان عابر أي طابع الانطواء (الضيق النفسي). كم كان هذا الباب مفتوحاً في السوق أو في الشارع وفي البيت، كم من كلمات عاطلة باطلة بلا معنى بل هادمة للنفوس، وقبل أن يستد هذا الفم أمام العرش العظيم الأبيض ها هو يستد في الشيخوخة هنا، إذ ينخفض صوت المطحنة- أي الأذن التي هي جهاز الاستقبال التي طالما أسرعت إلى أغاني العالم وكل حديث وكل قصة تُقال. وطالما رحبت بكل ما هو هادم للنفس أو فيه تشهير بالآخرين، وطالما رفضت أن تستقبل بوعي وإدراك وتقدير الصوت الكريم المحيي للنفوس، ها هي الأذن يثقل سمعها جداً. ويقوم لصوت العصفور، وترتبك دورة الدم الخاصة بالمخ وهكذا لا يكون تحكم في المراكز العليا في المخ. ولذلك يصبح النوم شحيحاً وقليلاً، وينزعج الإنسان لأقل صوت وتحط بنات الغناء- الحبال الصوتية التي طالما استعملت في أغاني هذا العالم ها هي تجف ولا تكون قدرة على نشيد واحد أو أغنية واحدة التي كلها من إملاء العدو.
"وَأَيْضاً يَخَافُونَ مِنَ الْعَالِي وَفِي الطَّرِيقِ أَهْوَالٌ وَاللَّوْزُ يُزْهِرُ وَالْجُنْدُبُ يُسْتَثْقَلُ وَالشَّهْوَةُ تَبْطُلُ لأَنَّ الإِنْسَانَ ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِهِ الأَبَدِيِّ وَالنَّادِبُونَ يَطُوفُونَ فِي السُّوقِ" (ع 5)
كم كان النشاط والحيوية والقوة الجسدية، كله في طريق متجنب عن حياة الله ها هو الكل ينهار وأمام ضعف عضلات الجسم وضعف عضلة القلب ، يصبح أي مكان مرتفع أمراً صعبا لا يُحتمل، وكم كانت الجرأة في الجري في كل مكان كما يقول الكتاب "جسورون معجبون بأنفسهم" ها هم يتصورون الأهوال المرعبة في كل مكان ً
واللوز يزهر- شعر الرأس الذي طالما تلاعبوا به، تارة يجعلونه مرخياً حتى أنك لا تكاد تفرق الرجل من المرأة، ها هي شيبة الرأس تقتحم طريقها في الشيخوخة.
والجندب يثقل- عضلات الساقين طالما حملت أحمالاً ثقيلة، ها هي ترى أخف شيء أي الجندب، تراه حملاً ثقيلاً. والشهوة تبطل، في الأصل الرغبة تفشل فالشهوات كامنة والرغبات الجسدية موجودة على أشدها لكنها تفشل نتيجة للضعف الجسدي.
لأن الإنسان ذاهب إلى بيته الأبدي، كل هذه الأمور المُرّة مقدمات الرحيل من هذا العالم إلى ذلك المصير الرهيب الذي لا يمكن تصور أبعاد بؤسه وتعاسته في انفصال أبدي عن الله. بينما النور والمجد والتسبيح والهتاف بفرح غامر لكل المفديين حول الفادي المعبود ربنا يسوع المسيح.
لكن في مقر الأشرار يصعد دخان عذابهم إلى الأبد الآبدين هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.
والنادبون يطوفون في السوق، ما أصعب خاتمة هذه المجموعة، يتصور الأصوات التي يسمعها في الشارع أنها ليست إلا مواكب جنازات، حيث النادبون يلطمون وينوحون ويبكون، لأنه ذاهب إلى النوح والبكاء الأبدي ها هو كل تصوره وتفكيره منحصر في هذا الأمر.
"قبلمَا يَنْفَصِمُ حَبْلُ الْفِضَّةِ أَوْ يَنْسَحِقُ كُوزُ الذَّهَبِ أَوْ تَنْكَسِرُ الْجَرَّةُ عَلَى الْعَيْنِ أَوْ تَنْقَصِفُ الْبَكَرَةُ عِنْدَ الْبِئْرِ" (ع 6)
هنا ينفرد الحكيم بهذا الوصف الرائع المذهل الدقيق، لكيفية خروج روح الإنسان في انتهاء حياته. ولا نجد على صفحات الوحي من يقترب من هذا التسجيل لأنه يتوافق مع سفر الجامعة الذي بحث الكثير من أنشطة الإنسان تحت الشمس من يوم الولادة إلى يوم الممات (راجع الأصحاح الثالث).
وهو يصف بطريقة معجزية من الناحية العلمية، ماذا يحدث في لحظة الوفاة للأعضاء الرئيسية التي تقوم عليها حياة الإنسان. وهو أمر ليس بغريب على صاحب الكلمة الحقيقي، الروح القدس، الذي جبل الإنسان من التراب. وبعد الاتقان المذهل لكل أجهزة الجسم، في نعمته نفخ في أنفه نسمة حياة فصار نفساً حية.
وهكذا على ذات الصورة البديعة المذهلة، يكوّن الأجنة في أحشاء الأمهات من بدء التاريخ إلى الآن- "وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ" (أع 17: 26).
نتقدم الآن إلى وصف سليمان بالروح القدس:
أولاً: ينفصم حبل الفضة. من معجزات القدير في جسم الإنسان ما يسمى بالنخاع الشوكيSpinal cord وهو على شكل حبل قطره حوالي 3 سم يخرج من قاع المخ ويتجه إلى أسفل مخترقاً فقرات العمود الفقري كله تجويف دائري خاص به داخل كل فقرة. وكما أن المخ في حماية عظام الجمجمة السميكة، كذلك النخاع الشوكي في حماية دائرية حوله تحميه من كل جانب بواسطة الفقرات. ومن هذا النخاع تخرج الأعصاب من جانبيه، وتتجه نصف دائرة إلى الأمام. ما أروعك يا سيدي ما أعجبك ما أحكمك!!
والعجيب أنه مغلّف بغشاء سميك لونه فضي رائع! والأعجب أنه في لحظة الوفاة، يحدث انفجار في هذا الغشاء لذلك يأتي التعبير "ينفصم". شكراً لصاحب الكلمة الخالق العظيم الذي تنازل إلينا في نعمة غنية وأعطى لنا هذه الروعة في كلمته الحية الباقية إلى الأبد.
ثانياً: ينسحق كوز الذهب- وهنا روعة أخرى لا تقل عن الأولى، لأن مخ الإنسان وإن كان دائرياً من أعلى لكنه ينساب اسطوانياً في أسفله بواسطة الجزء الأسفل منه المسمى بالمخيخ. وما أروع الخالق إذ جعله على شكل كوز مغطى بغشاء سنجابي كأنه من الذهب.
وفي هذا تعليم عظيم لنا، لأن ألوان الكتاب ومواده تشير إلى أمور روحية عميقة فغشاء المخ الذهبي وغشاء النخاع الشوكي الفضي، فيهما لغة واضحة لكل دارس لكلمة الله. فالفضة تشير إلى الفداء بدم الرب يسوع، والذهب يشير إلى تبرير الله للإنسان على حساب عمل المسيح، موته له المجد وقيامته لأنه "أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا" (رو 4: 25).
وهكذا في رسم الخالق العظيم الذي يقصد الخير الأبدي لنا، أولاً جعل الجهاز العصبي مغلفاً باللونين اللذين يشيران إلى بر الله المؤسس على الفداء وهذا ما نراه عملياً إذ أن الإنسان لن يجد راحته نفسياً وعصبياً إلا بالحصول على هذه العطية مجاناً من الله "متبررين مجاناً بنعمته بالفداء بيسوع المسيح" (رو 3: 24).
ثالثاً: تنكسر الجرة على العين- والمقصود هو القلب في ارتباطه بالأوعية الدموية الكبيرة مشبهاً بجرة تمتلئ من وريدين كبيرين، الوريد الأجوف السفلي والعلوي وهكذا إذ يمتلئ البطين الأيمن يدفع الدم في الشريان الرئوي الخارج منه إلى الرئتين للتنقية، ثم يعود الدم النقي إلى الأذين الأيسر ومنه إلى البطين الأيسر، وهذا يقوم بدفعه إلى الشريان الرئيسي الكبير المسمّى بالأورطي.
رابعاً: تنقصف البكرة عند البئر- في خروج الدم من البطين الأيمن في الشريان الرئوي إلى الرئتين للتنقية ثم يعود الدم النقي إلى الأذين الأيسر، يكوّن بكرة، والبئر هي الرئتان اللتان تمتلّئان بالدم الفاسد للتنقية، ويخرج منهما عائداً إلى القلب عن طريق الأوردة الرئوية. يا لها من دورة عجيبة فائقة مذهلة تُظهر عظمة وحكمة إلهنا الذي أعطى في أجسادنا دروساً عميقة عن الفداء والتبرير والتنقية قبل التغذية.
والعجيب أن الرئتين تقومان بتنقية غازية، أي تنقي الدم من ثاني أكسيد الكربون وتزوده بالأوكسجين، لكن هناك تنقية أخرى كيميائية للدم وذلك بواسطة الكليتين اللتين تستخلصان مادة البولينا وكل المواد السامة الأخرى الناتجة من تحلل الأطعمة. وهناك تنقية ثالثة بيولوجية يقوم بها الكبد إذ يمتص من الدم المواد الناتجة من تفاعل الأنزيمات مع الأطعمة كمادة الثيمول على سبيل المثال.
قد نكون خرجنا من دائرة تأمل الحكيم لإظهار لمحات من روعة خالقنا وفادينا المحب المعبود. هلم بنا نرجع إلى الحكيم فنراه يختم حياة الإنسان بهذا التقرير الخطير:
"فَيَرْجِعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ وَتَرْجِعُ الرُّوحُ إِلَى اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهَا" (ع 7)
ما أكثر تحذيرات الكتاب المقدس لأنه كتاب الله الذي يحب الإنسان ويريد له كل بركة من كل جهة أبدياً وزمنياً.
وفي ع 7 نجد تقريراً واضحاً يرد على تلك الأفكار التي كانت في قلبه بعيداً عن نور كلمة الله (جا 3: 18- 20) هنا الفكر الصحيح السليم المؤسس على كلمة الله، فالكلمة أعلنت من البداءة أن روح الإنسان الذي فيه نسمة من القدير، وهذا هو سر خلود الإنسان وسر امتيازه على كل الخليقة. ولكنه أيضاً أساس وقاعدة مسئولية الإنسان أمام محبة الله ونعمته التي جعلت له هذا الاعتبار العظيم. وكل نفس سوف تسمع هذه الكلمة الخطيرة "أعطِ حساب وكالتك" (لو 16: 2)، "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ" (مت 16: 26).
"بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ قَالَ الْجَامِعَةُ الْكُلُّ بَاطِلٌ" (ع 8)
أمام هزيمة قلعة جسم الإنسان بإزاء عوامل الشيخوخة لم يسع الحكيم إلا أن يصرّح: باطل الأباطيل. هذه القلعة التي طالما أظهرت كل الأنشطة وطالما تمتعت بكل عطايا الله تحت الشمس، ها هي تنهار تماماً وتتحلل، وطالما الأمر تحت الشمس لذلك ليس إلا الصرخة المُرّة: باطل..
"بَقِيَ أَنَّ الْجَامِعَةَ كَانَ حَكِيماً وَأَيْضاً عَلَّمَ الشَّعْبَ عِلْماً وَوَزَنَ وَبَحَثَ وَأَتْقَنَ أَمْثَالاً كَثِيرَةً. اَلْجَامِعَةُ طَلَبَ أَنْ يَجِدَ كَلِمَاتٍ مُسِرَّةً مَكْتُوبَةً بِالاِسْتِقَامَةِ كَلِمَاتِ حَقٍّ" (ع 9، 10)
هنا تقرير سليمان عن نفسه بإملاء الروح القدس أنه كان حكيماً. لقد أُعطى من إلهه حكمة فائقة لأنه فضّلها على كل العطايا الزمنية "الْحِكْمَةُ هِيَ الرَّأْسُ فَاقْتَنِ الْحِكْمَةَ وَبِكُلِّ مُقْتَنَاكَ اقْتَنِ الْفَهْمَ" (أم 4: 7) لقد أظهرت في ختام حياته ثغرات محزنة، لكن في كل أيام حياته أولاً، كان قلبه مشتاقاً لجمع الحكمة لكي يوصلها كأمانة بين يديه، إلى شعب الرب. أي توصيل الحق الإلهي لهم، لذلك دُعي الجامعة (راجع أول السفر). ليتنا نسلك في ذات الطريق ونعي قول الكتاب "قد هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو 4: 6)
ثانياً، كان شغله الشاغل أن يجد كلمات مسرّة مكتوبة بالاستقامة، كلمات حق، فأعطاه الرب أمثالاً موحى بها من الله ناتجة عن اللهج في كلمة الله. وهنا الحكمة الحقيقية أن تكون أقواله مكتوبة بالاستقامة كلمات حق.
"كَلاَمُ الْحُكَمَاءِ كَالْمَنَاخِسِ وَكَأَوْتَادٍ مُنْغَرِزَةٍ أَرْبَابُ الْجَمَاعَاتِ قَدْ أُعْطِيَتْ مِنْ رَاعٍ وَاحِدٍ" (ع 11)
من هم الحكماء؟ هم الذين استقوا الحكمة من نبعها الواحد، الحكمة الأزلي يهوه العهد القديم الذي ظهر في الجسد ربنا يسوع المسيح- وتعلموها منه فانطبعت في قلوبهم أولاً ومن فضلة القلب يتكلم الفم"
فَلَمَّا رَأَوْا مُجَاهَرَةَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَوَجَدُوا أَنَّهُمَا إِنْسَانَانِ عَدِيمَا الْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ تَعَجَّبُوا فَعَرَفُوهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ يَسُوعَ" (أع 4: 13).
خلاصة القول، الحكماء هم المؤمنون المملوؤن بروح المسيح، هؤلاء فقط تشبّه ملماتهم بالمناسيس (المناخس) وكما أن المناسيس تستخدم لحث الثيران التي تجر المحراث للسير في استقامة وبدون تراخِ في خط المحراث، هكذا كلمات الحكماء بقوة الروح القدس تنهض بالنفوس لكي يكون لها السلوك في الإيمان أي الحياة المستقيمة بدون تراخِ.
"وكأوتاد منغرزة" أي ثابتة في الأرض "فاقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة القادرة أن تخلص نفوسكم" (يع 1: 21) وهنا نرى وجهين مباركين لعمل الكلمة الإلهية الحية والفعالة والأمضى من كل سيف ذي حدين:
أولاً- تنخس القلب "فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس... ماذا نصنع؟" (أع 2: 37).
ثانياً- تغرس الحق في أعماق النفس فيصبح ثابتاً راسخاً "إن ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم" (يو 15: 7).
"أرباب الجماعات" أي الرعاة بين الجماعات الذين زودتهم النعمة بمواهب قد أُعطبت لهم من راعِ واحد. ونلاحظ أن الوحي في العهد القديم يشير إلى الرب يهوه كالراعي "وتشددت سواعد يديه من هناك من الراعي صخر إسرائيل" (تك 49: 24) "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء" (مز 23: 1)، "كراع يرعى قطيعه بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات" (أش 40: 11)، وهو بذاته "الراعي لصالح الذي بذل نفسه لأجل الخراف" (يو 10: 11)، وهو "راعي الخراف العظيم المُقام من الأموات بدم العهد الأبدي" (عب 13: 20) وهو "الذي صعد.. وأعطى الناس عطايا وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ، لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ" (أف 4: 11، 12).
"وَبَقِيَ فَمِنْ هَذَا يَا ابْنِي تَحَذَّرْ: لِعَمَلِ كُتُبٍ كَثِيرَةٍ لاَ نِهَايَةَ وَالدَّرْسُ الْكَثِيرُ تَعَبٌ لِلْجَسَدِ" (ع 12).
يقول سليمان الملك: لقد قدمت لكم الكثير من النصائح بخصوص كل ما اختبرته تحت الشمس، لذلك يقول يا ابني، إذ كان متقدماً في الأيام وقدّم خلاصة ما رآه في أيامه، لكل من هو في مقتبل العمر، لذلك يقول تلك الكلمة الحلوة "يا ابني"- ما هي هذه النصيحة الباقية؟ إنه لا نهاية لكتابة كتب تعالج أسرار الحياة وتحاول كشف غوامض الكون- الأمور التي عالجها الحكيم بإسهاب في أقواله السابقة وكثرة الدرس في هذه الأمور لا تسفر إلا عن تعب الجسد دون الوصول إلى نتيجة حاسمة.
فأين إذاً المرجع الواحد الكامل الوافي؟ "فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ" (مز 119: 130)، " أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي. أَكْثَرَ مِنَ الشُّيُوخِ فَطِنْتُ لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ" (مز 119: 99، 100) وواضح سر التفوق على الشيوخ والمعلمين المهملين لكلمة الله، ونرى ذلك بكل وضوح في ع 97 "كم أحببت شريعتك اليوم كله هي لهجي".
"فَلْنَسْمَعْ خِتَامَ الأَمْرِ كُلِّهِ: اتَّقِ اللَّهَ وَاحْفَظْ وَصَايَاهُ لأَنَّ هَذَا هُوَ الإِنْسَانُ كُلُّهُ" (ع 13).
هنا قمة النصائح وخلاصتها "ختام الأمر كله" كل البحث الذي بحثه، وكل الاجتهاد في كشف الغوامض، وصل به إلى هذا الأمر الواحد الذي فيه كل الحكمة للإنسان "إتق الله" أي وضع الإنسان المخلوق في وضع الطاعة والخضوع والولاء والحب والتقدير لله الخالق الواهب الحقيقي لكل شيء صالح، وهذه هي مخافة الرب. وما أروع قلب إلهنا الذي يقدم لنا هذه الكلمة الهامة 21 مرة في وحيه المقدس وهنا الحكيم يشير إليها بإملاء الروح القدس "اتق الله" وهنا يتهيأ القلب لحفظ وصاياه.
ولكن من مواضيع كثيرة في الوحي المقدس نتعلم أن القلب البشري حجري مملوء بالعناد. لذلك نعود إلى المفتاح الحقيقي الصادق الذي وضحه ربنا المعبود لرئيس مجمع اليهود "ينبغي أن تولدوا من فوق" (يوحنا 3: 3- 14) أي أنه يضع الطبيعة الساقطة الموروثة في حكم الموت ويعطينا طبيعة طاهرة مقدسة سماوية وهذه هي الولادة الثانية، الولادة من فوق (1 بط 1: 23، 2 بط 1: 5، يو 3: 3-6، حز 36).
"إتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله"
- "هذا هو الإنسان كله"- هذا هو الإنسان في القصد من كل حياته هنا على الأرض، هذا هو الإنسان في مشورات الله، لمجد الله في كل حياته، وكيف يتم ذلك إلا بالارتباط القلبي العميق بذاك الفريد الذي قال في نهاية حياته له المجد قبل الصليب "أن مجدتك على الأرض" (يو 17: 3). هنا فقط يتحقق قصد الله المبارك في الإنسان.
"لأَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُ كُلَّ عَمَلٍ إِلَى الدَّيْنُونَةِ عَلَى كُلِّ خَفِيٍّ إِنْ كَانَ خَيْراً أَوْ شَرّاً" (ع 14).
هنا التحذير وإنذار المحبة، إذ لا يمكن أن يكون كتاب الله كاملاً وهو يحدثنا عن محبة الله ورحمته ونعمته في عمل الفداء العظيم في صليب ربنا يسوع المسيح، ويقف عند هذا الحد، لكن قلب الله المحب يوضح لنا ما هي نتيجة رفض هذا العمل الكريم الجليل، ما هي نتيجة رفض هذه اليد الممدودة بالمصالحة والغفران والتوبة. لا يبقى للإنسان حتمية واحدة وهي دينونة الله لكل خطايا الإنسان. ما أروع رئيس الحياة له المجد وهو في أرض الموت يعلن عن حياة الله مقدمة للإنسان (يو 5: 21) "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ". لكن ما أعجب العدد التالي- يو 5: 22 "لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ".
عجيب جداً في مشهد الحديث عن المحبة الإلهية التي قصدها أن تهب الإنسان حياة من الله، حياة أبدية، حياة الله نفسه تصل إلى الإنسان، وذلك بواسطة الابن وفي شخصه المبارك، عجيب أن في هذا المشهد يأتي الحديث عن الدينونة؟ نعم. لكي يوضح مسؤولية الإنسان أمام هذه المحبة، لكي يحدد الإنسان موقفه من هذه النعمة الغنية "أُشْهِدُ عَليْكُمُ اليَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلتُ قُدَّامَكَ الحَيَاةَ وَالمَوْتَ. البَرَكَةَ وَاللعْنَةَ. فَاخْتَرِ الحَيَاةَ لِتَحْيَا... إِذْ تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ وَتَسْمَعُ لِصَوْتِهِ وَتَلتَصِقُ بِهِ لأَنَّهُ هُوَ حَيَاتُكَ" (تث 30: 19، 20).
وما أروع الدروس التي أعطاها له المجد في الطبيعة، تأمل الحقول وما تنبته من ثمار يعجز الإنسان عن وصف أنواعها، والفيض الغامر لحياة الإنسان من هذه الثمار التي لا نستطيع أن نحصيها، لكنها في ذات الوقت تحمل هذا الطابع وهو صوت الدينونة، فكل ما يُزرع في الخفاء في بطن الأرض ها هي الأرض تُنبته وتجعله يخرج ويرتفع ويعلن تماماً نوعية ما زُرع. أليس هذا ما يقوله الوحي المقدس "لاَ تَضِلُّوا! اللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَاداً، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً" (غل 6: 7، 8). وواضح استحالة الزرع للروح إلا بالولادة من فوق بالإيمان بربنا يسوع المسيح "لأَنَّكُمْ جَمِيعاً (الكلام موجه إلى القديسين في كنائس غلاطية) أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غل 3: 26)- "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يو 3: 6).
- عدد الزيارات: 1942