الدرس السادس والخمسون: غاية الوصية الثانية
شرعنا في درسنا السابق في الكلام عن الوصية الثانية من وصايا الله العشر والتي تأمرنا بألا نستعمل تماثيل منحوتة في عبادتنا لله تعالى. ولقد رأينا أنه من السهل جداً الانـزلاق من خطية استعمال التماثيل المنحوتة إلى خطية عبادة الآلهة الوثنية. وتكلمنا أيضاً عن التحذيرات الإلهية التي وردت في نص الوصية وكيف أن الله أظهر أنه إله غيور يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء وكذلك بحثنا في محبة الله وفي وعده بأن يصنع إحساناً إلى ألوف من محبيه وحافظي وصاياه.
أما الآن فإننا نستمر في البحث في غاية هذه الوصية الثانية. إذ أن الله عندما أعطانا هذه الوصية بواسطة كليمه موسى لم يكن ليحرّم فقط عبادة الأوثان الظاهرية أو اللجوء إلى التماثيل المنحوتة في العبادة فقط بل أنه تعالى كان يُحرّم أي ابتعاد عن عبادته الحقيقية. وكنا قد ذكرنا بعض الشيء عن هذا الموضوع عندما اقتبسنا قول الرب يسوع المسيح: الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.
وبما أن تجارب هذا العصر ليست كتجارب العصور الماضية فإنه يجدر بنا أن نذكر أن كسر هذه الوصية يجري ليس فقط في الأماكن التي يلجأ فيها الناس إلى عبادة الأوثان بصورة ظاهرية بل إن كسر هذه الوصية يجري أيضاً حيثما يعمد الناس إلى نسيان الله تعالى وكلمته المقدسة واضعين ثقتهم في الحظ أو النصيب أو أية قوة طبيعية عمياء أو أية نظرية فلسفية إلحادية.
فالإنسان مخلوق لا بد له أن يعبد لأن العبادة جزء لا يتجزأ من تكوين شخصيته وإذا لم يكن الإنسان يعبد الله الحقيقي فإنه لا بد له من أن ينحرف دينياً إلى عبادة الآلهة المتعددة وهذا يعني أن الإنسان وإن لم يكن عنده أصنام منظورة وإن لم يكن يذهب إلى هياكل أو معابد وثنية فإنه يكون كاسراً للوصية الثانية عندما يحول ولاءه التام والمطلق إلى أمور أو أشياء مخلوقة. وثنية القرن العشرين المعاصرة هي وثنية غير منظورة، إنها صنمية من لون جديد وهي ليست أقل خطراً من صنمية العصور القديمة. فلنذكر جيداً أن الله تعالى اسمه غيور ى يرضى عن مخلوقاته المتهافتة على خدمة وعبادة القوة والمادة العمياء.
وحتى إن سَلِم الإنسان من الوقوع في خطية عبادة آلهة العصر الحديث فإنه يكون معرّضاً للوقوع في خطية عبادة آلهة من صنع عقله أو خياله وذلك إن لم يُخضع جميع أفكاره لتعاليم كلمة الله وهي الدستور الوحيد للإيمان والحياة ولاسيما في أمور الله وعبادته. ويظهر هذا الخطر الحقيقي في حياة الناس الذين لا يودون الرضوخ لتعاليم كلمة الله بخصوص الله وملكوته وسلطانه وشريعته وأحكامه. فمن لم يود الإذعان لسلطان الله ومن لم يعترف بأن الله يتطلب منا عبادة روحية نقية ومن أنكر هذا الأمر أو ذاك في كلمته المقدسة؟ من قال بأن الله لا يعاقب الخطاة ومن كوّن فكرة بشرية عن الله تعالى أو من لجأ إلى عبادة الله في الطبيعة العمياء، أفلا يكون هذا الشخص عابداً لآلهة وهمية من اختراع أفكاره الخاصة وإن لم يكن قد صنع لهذه الآلهة أصناماً منظورة أو تماثيلاً منحوتة؟
ويكسر الناس هذه الوصية الثانية عندما لا يعترفون بالله تعالى وبعنايته الشاملة لكل شيء. إن الله- حسب تعليم كلمته المقدسة- هو مالك كل الكون وهو مُسيّر دفة التاريخ البشري وهو المشرف على حياة كل إنسان. ولكنه يحدث كثيراً أننا نرى الناس ينسون هذه الحقيقة الكتابية المنعشة والمحررة ويذهبون وراء الخرافات البالية والأضاليل البشرية الواهية ويزعمون بأن هناك نواحي عديدة من الحياة تحت تأثير قوة حتمية عمياء وأن الإنسان في هذه الحياة ليس إلا فريسة ظروف آلية حتمية وأنه لا يستطيع مطلقاً أن يجد مخرجاً للمآزق الحرجة التي يجد نفسه فيها. إن هكذا آراء وأفكار وتعاليم هي مخالفة تماماً لروح ونص الوصية الثانية التي تتطلب منا أن نعبد الله عبادة روحية سليمة وأن ننظر إليه تعالى في جميع ضيقاتنا منتظرين منه العون والنجاة.
وتتهي هذا البحث المختصر في الوصية الثانية باقتباسنا من كلمة الله، من سفر نبوءة اشعياء (40):
"فبمن تشبهون الله وأي شبه تعادلون به؟ الصنم يسبكه الصانع والصائغ يغشيه بذهب ويصوغ سلاسل فضة. الفقير عن التقدمة ينتخب خشباً ولا يسوّس، يطلب له صانعاً ماهراً لينصب صنماً لا يتزعزع.
"ألا تعلمون؟ ألا تسمعون؟ ألم تُخبروا من البداءة؟ ألم تفهموا من أساسات الأرض؟ الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن.
"فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس؟ ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه؟ من الذي يُخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء لكثرة القوة وكون شديد القدرة لا يفقد أحد.
"أما عرفت أم لم تسمع؟ إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا، ليس عن فهمه فحص. يُعطي المعيي قدرة ولعديم القوة يكثّر شدة. الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثّرون تعثّراً، وأما منتظروا الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا ينعبون، يمشون ولا يعيون".
- عدد الزيارات: 2808