Skip to main content

اختبار الميلاد الثاني

سألتني آنسة كريمة من خريجات كلية الآداب هذا السؤال "إنني أتعجب وأقف في حيرة بإزاء أعمال الله، فأنا عندما أكتب كتاباً ثم أجد أن عيوباً تجعله بلا قيمة، أحرقه، وأبدأ في كتابة نسخة

أخرى خالية من العيوب والأخطاء. فلماذا لم يفعل الله ذلك يوم رأى آدم الأول- وهو النسخة الأولى التي خلقها من بني الإنسان- وقد شوهته الخطية، وسودته الآثام؟!

نعم.... لماذا لم يحرق ذلك الإنسان الأول، ويخلق إنساناً جديداً خالياً من جذور الشر وأصل الخطية؟"

كانت الآنسة المثقفة تتكلم في قوة، وكان يبدو أن هذا الفكر يقلقها ويقض مضجعها ويحرمها من التمتع بمحبة الله.

نظرت إليها في هدوء وقلت "إن الله لم يحرق النسخة الأولى من خليقته أيتها الآنسة، لأنه عرف أنه يقدر على أن يجعل من هذه النسخة التي شوهها الشيطان بالسقوط طبعة جديدة نظيفة كأنها لم تتشوه ولم تنحدر إلى أعماق الفساد، ومع أن إعادة هذا المخلوق الساقط إلى مخلوق جديد قد كلف الله ثمناً كبيراً، إلا أن هذا الطريق قد أعلن لذلك المخلوق أن الله يحبه من قلبه، فأدرك المخلوق البائس المسكين أن الله محبة، فانجذب نحوه، وتعبد له في حرية وحب شديد".

وسكتت الآنسة لحظة ثم قالت "وكيف يعيد الله طباعة  المخلوق المشوه بحياة جديدة؟!"

قلت "إن الطريق إلى ذلك يا آنسة هو اختبار الميلاد الثاني، هذا الاختبار الفريد، الذي تتميز به المسيحية عن سائر الديانات"

إن كل ديانات الأرض، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، فاليهودية تقول "افعل الصلاح فتحيا" وكأنها تطلب الحركة من ميت فاقد الحياة، والبوذية تقول "إن الصلاح والخير هما الطريق إلى بوذا الإله الأكبر" وكأنها تقول للإنسان الساقط إنه يستحيل عليه الوصول إلى الإله الأكبر، لأنه أين نجد الإنسان الصالح الذي عاش على أرضنا "وليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد" (رومية 3: 12).

والإسلامية تقول "الحسنات تذهب السيئات"، فالخلاص في عرف الإسلام "بالأعمال" وكيف يقدر الإنسان وهو شرير بطبيعته أن يقدم لله أعمالاً تسر قلبه، إنه يصرخ في عمق إحساسه بحقيقة حاله "قد صرنا كلنا كنجس وكثوب عدة كل أعمال برنا" (أش 64: 6).

لكن المسيحية تقف فريدة بين هذه الديانات فتقول "إنني آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر كما يعلم غيري وأكثر مما يعلم غيري، لكنني أحل للبشر عقدة العقد، فأريهم الطريق إلى الميلاد الثاني، ذلك الاختبار الذي يغير طبيعتهم ويجدد حياتهم، ويهبهم طبيعة نقية تكره الشر وتفعل البر "وإن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" يوحنا (3:3).

نقرأ في الكتاب المقدس قصة ذلك الرجل الفريسي المتدين المدقق "نيقوديموس" ونستطيع أن نتصوره وهو يجلس في يوم ما ليتباحث مع بعض زملائه في أمر المسيح، ثم ينتهي بحثهم بأن يقرروا انابته للذهاب إلى يسوع لمعرفة حقيقة رسالته، ومغزى دعوته.... وها هو المعلم الفريسي العجوز يأتي للمسيح تحت جنح الظلام حتى لا يراه الناس.... ويبدأ نيقوديموس حديثه مع يسوع بهذه الكلمات اللطيفة "يا معلم، نعلم- أنا وزملائي- أنك قد أتيت من الله معلماً لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه" (يو 3: 2) ويتوقع الإنسان أن يسوع يرد على صاحب هذه التحية قائلاً "شكراً لك ولزملائك لهذا الشرف الرفيع الذي أغدقتموه عليّ "لكن المسيح يدخل إلى صميم رسالته في الحال فيرد على الفريسي الجليل بالقول "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يو 3: 3) وأمام هذه الكلمات العجيبة يقف نيقوديموس حائراً (إنه أحد شيوخ اليهود، وهو رجل مواظب على حضور المجمع، لكنه يذهب إلى المجمع ويخرج منه دون أن يحس بتأثير كبير.... ولقد سئم التقاليد والطقوس والعبادة الميكانيكية، وهاهو ذا قد أتى للمعلم الجديد الذي ظهر في اليهودية ليفحص عن حقيقة تعليمه، عله يجد فيه شبع نفسه، وري قلبه..... لكن المعلم الجديد يقول له "إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله".

يولد من فوق؟! وكيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ، ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟!

وإذا بالمعلم الذي أتى من الله معلماً يعود مؤكداً وقائلاً "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يوحنا 3: 5).

يولد من الماء والروح؟ وما معنى الولادة من الماء والروح؟

وهنا يستطرد نبي الناصرة قائلاً "المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح" (يوحنا 3: 6).

ويقف نيقوديموس مفكراً، إنه رجل متدين، فريسي مدقق في ديانته، معلم من معلمي الناموس، عضو من أعضاء السنهدريم، رجل طيب في معاملاته الاجتماعية، مؤدب غاية الأدب، لطيف في حياته العائلية، لكنه يحس في أعماق نفسه أنه "مولود من الجسد" وأن هذا الاختبار الجديد الذي ينادي به ذلك المعلم الصالح هو حاجته العظمى لرؤية ملكوت الله وللدخول إلى ذلك الملكوت العظيم... فيلتفت في حيرته إلى السيد ويقول "كيف يمكن أن يكون هذا؟!"

فهل وصلت يا صديقي القارئ إلى هذا الحد من التفكير، فتأكدت أن علمك، وأدبك وثقافتك العالية، ولطفك الجوهري، ومشاعرك الرقيقة، كل هذه لم تعطك هذا الاختبار المجيد، اختبار الميلاد الثاني....؟؟ إذاً فدعني أسوق إليك هذه الرسالة التي أصلي أن يباركها الرب لنفسك وسأحصر موضوعي في ثلاث كلمات موجزة.

  • عدد الزيارات: 2439