Skip to main content

نقد العقلانية

كل من يبغض الوجوديين يطلق عليه اسم "غير عاقلين" أو سخفاء. ومن يطلق عليهم مثل هذا الاسم يقطع الحوار معهم إذ لا مجال للحوار. ولكن في الواقع إن هذا الوضع يثير قضية فكرية جديّة.

مرة كتب ديدرو (Diderot) الإفرنسي الثائر، وبكثير من التهكم والسخرية: "ظللت الطريق ذات ليلة في غابة كثيفة لا حدود لها، ولم يكن لدي سوى سراج صغير اهتدي بنوره. وإذا برجل غريب يعترض طريقه قائلاً: يا صديقي العزيز، أطفئ سراجك إذا أردت أن تجد طريقك. كان هذا الرجل الغريب رجل لاهوت. "

إنها ضربة قاصمة- هذا إذا وجدنا الصلة أو الرابطة بين قول ديدرو وبين ما نحن بصدده. ربما كانت هذه الضربة خبطة عشواء لا تصب معظم اللاهوتيين الذين يقضون حياتهم في تدعيم الدين بالعقل. غير أن الذين جاءوا بعد ديدرو شعروا أن هذه الصفعة التي صفع بها ديدرو رجل اللاهوت تصيب صفحة خد الوجودي إصابة مباشرة. ولكن الوجودي يرد على هذا بقوله: إن ديدرو في الغابة المظلمة يستطيع إن يظهر حمقه وسخفه بطريقتين: أولاً يستطيع أن يطفئ السراج، ثانياً يستطيع أن يفترض أن السراج منارة ضخمة تنير الغابات كلها وبذا يبتعد التائه فيها عن كل خطر يلازم المغامرة.

إذا كانت الطريقة الأولى (التي بها يظهر صاحبنا حمقه) سخفاً وحمقاً فإن الطريقة الثانية وهم جنوني. فإن الحكيم ينتفع بكامل النور المتوافر لديه بدون أن يخدع نفسه ويضللها بالنسبة لكمية النور التي لديه. الأمر الهام الانتفاع بما لديه لا الكمية التي لديه. فقد قال باسكال، وكان ذلك قبل ديدرو بسنوات عديدة: "لاشيء يوافق العقل ويطابقه كإنكار العقل."

يحاول جميع الوجوديين أن يعرفوا، قدر المستطاع، المدى الذي يبلغه نور العقل، ويحاولون جهدهم في استخدام نور العقل. ولكن جميعهم يأبون أن ينكروا أمر الاختبارات التي يعجزون عن تفسير كنهها (تماماً كما لو كنت أنا لا أنكر وجود الجاذبية لمجرد أنني لا أستطيع أن أفسرها). وفضلاً عن هذا فإنهم يصرون على أن العقل لايستطيع أن يزيل عن المرء تبعة الحكم الذي يتخذه أو القرار الشخصي الذي يلتزمه.

إن كير كغارد يدرك جيداً أن التفكير الموضوعي في الأدلة هو السبيل الوحيد لحل بعض المشاكل. وهو يعلم أن الناس يقعون في فخ الأوهام والخيالات الخداعة، وإن الانفصال والابتعاد عن الحقائق الملموسة جنون. ولكنه يذهب في القول أن الأمر لا يقتصر على معرفة الإنسان الحقيقة المجردة بل ينبغي له أن يكون هو ذاته امرء يلتزم الحقيقة الموضوعية بإخلاص وأمانة. ويدلل كير كغارد على صحة هذه الدعوى بسرده إحدى القصص التي كان يتميز بسرد مثيلاتها.

يقول: هرب أحد المجانين من مستشفى الأمراض العقلية. وقرر أن يقنع الناس بأنه ليس مجنوناً وذلك بأنه راح يتكلم كلاماً يدل على العقل السليم. وذات مرة وجد هذا المجنون كرة فوضعها في جيبة بنطلونه الخلفية. فكان كلما خطا خطوة ارتدت الكرة من على مؤخرته وارتفعت فيقول: "ها! ها! الأرض مستديرة! " إن هذا الرجل ينطق بحقيقة موضوعية ولكنه لا يدلل على أنه رجل عاقل. ثم يتابع كير كغارد كلامه قائلاً أن هذا الرجل لا يكون في وضع أفضل لو أنه راح يقول للناس: إن الأرض مسطحة. إن الحقيقة الموضوعية تفضل الخطأ الموضوعي، ولكن الحقيقة الذاتية الشخصية أفضل من الاثنين- أي الحقيقة كما يراها الشخص إذا أفلح بربطها بالواقع الحقيقي. وهذا معنى العبارتين اللتين تترددان كثيراً على الألسنة: "إن الحقيقة ذاتية شخصية." "والحقيقة تنطوي على ما في داخل الإنسان."

يترتب على هذا، كما يقول كير كغارد، إن الإنسان يستطيع أن يجد الارتباط بينه وبن الله "بفضل الوجد والشغف النفسي الداخلي الذي لا حدود له." وكل محاولة يقوم بها الإنسان للوصول إلى معرفة الله عن طريق الحجج والبراهين المنطقية الموضوعية هي محاولة فيها سخف وجهالة. وبالرغم من أن كير كغارد كان يدرك مبلغ الخطأ في الحجج والأدلة على وجود الله ذلك الخطأ الذي يدركه غيره من أصحاب المنطق، فإن الاعتراض الرئيسي الذي يبديه كان شيء آخر يختلف عن اعتراض غيره. فإنه كان يرى أن الإنسان الذي يقف بعيداً عن الله، ثم يحاول أن يبرهن بالأدلة والحجج على أن الله موجود يكون كمن يفصل نفسه عن الوجد أو الشغف النفسي الداخلي الذي يستطيع وحده أن يقرب الإنسان من الله ويوفر له معرفة الله عن كثب. ثم أنه يقول بلغته البليغة المنمقة التي يتميز بها: "إذن، من الأفضل لنا أن نقع في الخطيئة والإثم، وأن نعاود الخطيئة والإثم، وأن نغري العذارى، وأن نقتل الناس، وأن نسلب المارة على الطرقات العامة..." ومع هذا فإننا لن نفلت من يد الله فإنه يستطيع دوماً ان يمسك بنا.

إن العقلانية، سواء كانت عقلانية في الدين أم في الفلسفة، لم تستعد قوتها ونشاطها منذ أن انهال عليها الوجوديين الأول بضرباتهم القاصمة. ولكن هجوم كير كغارد العنيف يهمل قضيتين أساسيتين:

أولا": إن كير كغارد، كسائر المسيحيين الذين أتوا بعد الرسول بولس، يرى في إنجيل عمل الله في المسيح "إهانة" و"سخفا" " بالنسبة إلى ميولنا الطبيعية. ثم أنه يتكلم، ويتفاخر وبغطرسة، عن "غير المعقول" في الإيمان إلى مدى يتساءل معه المرء أحيانا" عن قدرة العقل على التفريق بين ما هو حقيقة في الدين وبين ما هو سخافة وحمق.

ثانياً: يشير كير كغارد أحياناً إلى أن الإيمان، أو ما يؤمن به المرء قد يكون أمراً ثانوياً تافهاً، إنما الأمر الهام هو أن يكون إيمان هذا المرء إيماناً صادراً عن وجد وشغف صادقين. وأحياناً أخرى يرفض مثل هذا الشيء "الشيطاني" ويهاجمه بعنف. وهذا التناقض الذي وقع فيه كير كغارد لم يستطع التخلص منه بل تركه إرثاً للوجوديين الذين سيأتون بعده. أما اليوم فإن بعض الوجوديين يلقون أهمية كبيرة على مضمون الإيمان وعلى ما ينطوي عليه من محتوى، بينما يرى وجوديون آخرون إن الأمر الهام هو الأسلوب والطريقة التي يؤمن بها الإنسان .

  • عدد الزيارات: 5065