Skip to main content

من جهة الملابس

إذا تأملنا ملابس هرون الرسمية، التي كان يظهر بها أمام الله في الأقداس عند قيامه بالخدمة الكهنوتية (والتي كانت تدعى ثياب المجد والبهاء)، نرى أنها كانت ترمز إلى خواص المسيح الثابتة إلى الأبد، والتي يتميز بها كرئيس الكهنة العظيم القائم أمام الله لأجلنا في كل حين. ولذلك لم يترك الله بني إسرائيل ليعملوا هذه الملابس كما شاءوا، بل وصف لهم كل قطعة منها وصفاً دقيقاً كما يتضح من (خروج28: 4- 39). ومن ثم عملوا كما وصفها لهم تماماً ، كما يتضح من (خروج39: 1- 31). وفيما يلي أجزاء هذه الملابس، وما ترمز إليه من خواص المسيح التي أشرنا إليها:

1-الأفود:

(أ)-الأفود كلمة عبرية معناها "رداء"، وتطلق بصفة خاصة على اللباس الخارجي لرئيس الكهنة، وكان يصنع من خيوط كتانية وذهبية معاً، المر الذي جعل هذا اللباس متيناً وبراقاً. ولذلك كان رمزاً إلى إنسانية المسيح النقية، وأيضاً إلى لاهوته اللذين يفوقان في قدرهما كل شيء في الوجود (لأن الكتان لبياض لونه يشار به إلى النقاوة، والذهب لقيمته الثمينة يشار به إلى ما هو إلهي)، ومن ثم كان المسيح في ذاته الفريدة، أفضل من يصلح للكهنوت.

أما الألوان التي كان يتميز بها الرداء فهي الأسمانجوني (السماوي) والأرجوان (البنفسجي) والقرمز (الأحمر) والكتان (الأبيض)، وهذه الألوان ترمز على التوالي إلى مقام المسيح السماوي والملكي، كما ترمز إلى الفداء الكريم[1]الذي قام به له المجد، وإلى النقاوة المطلقة التي كانت تتميز بها حياته.

وكان هذا الرداء يظل مشدوداً إلى جسد رئيس الكهنة بواسطة زنار (أو حزام)، له ذات تركيب الرداء وألوانه، وكان ذلك رمزاً إلى أن خواص المسيح السابق ذكرها تلازمه دائماً أبداً، إذ أنها (إن جاز التعبير) جزء لا يتجزأ من ذاته. كما أن هذا الزنار كان بمثابة المنطقة، والمنطقة في الكتاب المقدس تشير إلى الاستعداد للخدمة (لوقا 12: 37).

ولذلك كان الزنار رمزاً إلى قيام المسيح بالخدمة الكهنوتية لأجلنا أمام الله بلا ملل أو كلل (عبرانيين9: 24)، الأمر الذي يؤكد لنا ضمان خلاصنا كل الطريق ووصولنا كاملين إلى راحته تعالى. ونظراً لأن المسيح من الناحية الناسوتية هو الشخص الذي استطاع أن يخدم الله بكل قلبه وكل نفسه وكل قدرته في كل وقت من الأوقات، دعي بالوحي عن جدارة واستحقاق "عبد الرب الذي يعقل ويتعالى ويرتقي ويتسامى جداً" (إشعياء52: 13).

(ب)-وعلى كتفي الرداء كان يوضع حجران كريمان من الجزع، محاط كل منهما بطوق من الذهب. وبكل طوق كانت توجد سلسلة مجدولة من ذهب نقي تتصل بالصدرة (حيث يوجد اثنا عشر حجراً كريماً أيضاً)، ويدل اسم هذا الحجر بالعبرية على اللمعان كما بنار متوهجة. وكان منقوشاً على كل حجر من الحجرين المذكورين أسماء ستة من أسباط بني إسرائيل بحسب ترتيب مولدهم، ليكون ذلك تذكاراً أمام الرب[2]. ونقش السماء وليس كتابتها، كان رمزاً إلى ثبات مقام المؤمنين الحقيقيين في المسيح (يوحنا10: 28). وكونها منقوشة على حجرين كريمين رمز إلى القيمة العظيمة التي لهؤلاء المؤمنين في نظر الله بسبب اتحادهم بالمسيح[3]، وأيضاً بسبب كونهم الشهادة الناطقة عن نعمته تعالى، وذلك على الرغم مما قد يوجد فيهم من ضعف أو نقص كما أن نقشها بحسب ترتيب المولد[4]، رمز إلى أن علاقة الله الودية بالمؤمنين مرتبطة فقط بميلادهم الروحي. أما حياتهم السابقة لهذا الميلاد فلا قيمة لها أمامه حتى إذا كان بها الكثير من الأعمال التي تدعى صالحة[5].

(ج)-وإحاطة كل من الحجرين بطوق من ذهب كانت رمزاً إلى إقامة المؤمنين الحقيقيين في نعمة الله، وأيضاً إلى العناية الإلهية الفائقة بهم. ووجود الحجرين على كتفي الرداء كان رمزاً إلى أن المسيح نفسه هو الذي يحملهم بقدرته- فالقدرة التي تحفظ المسكونة بأسرها (عبرانيين1: 3)، هي التي تحفظ هؤلاء المؤمنين مهما كان شأنهم. ومن ثم لا يهلك واحد منهم. وكون هذه الأسماء منقوشة للذكرى، رمز إلى أن الله لا يغفل عن هؤلاء المؤمنين، بل ينظر إليهم جميعاً بعين الرضا في كل وقت من الأوقات (مزمور32: 8).

2-صدرة القضاء:

(أ)-وترد هذه الصدرة في العبرية بمعنى "حلية" أيضاً، وكانت صناعتها مثل صناعة الرداء تماماً. ولذلك كانت ترمز إلى ما يرمز إليه الرداء من صفات المسيح الذاتية التي ذكرناها. وسميت "بصدرة القضاء" لاحتوائها على "الأوريم والتميم" اللذين سنتحدث عنهما فيما بعد. ولا يراد بالقضاء هنا الدينونة بل التمييز والرشد والحكم الصائب (العدد27: 21)... وكانت هذه الصدرة مطوية على نفسها (كما هو الحال في بعض محافظ النقود والأوراق)، وكان يثبت عليها من الخارج اثني عشر حجراً كريماً[6]، منقوش على كل حجر منها اسم سبط من أسباط بني إسرائيل، بحسب ترتيب حلولهم حول خيمة الاجتماع، وسيرهم في البرية من مكان إلى مكان. وكانت الصدرة تتصل بكتفي الرداء (حيث يوجد حجرا الجزع، بواسطة سلاسل، وتتصل بالجزء الأمامي من الرداء (حيث الزنار) بسلاسل أخرى. وهذه السلاسل كانت مجدولة من أسلاك ذهبية، ومن ثم لم تكن تتقطع أو يعلوها الصدأ. وفي باطن الصدرة كان يوجد "الأوريم والتميم" اللذان ذكرناهما، وهما كلمتان عبريتان معناهما الحرفي "الأنوار والكمالات".

(ب)-ونقش أسماء بني إسرائيل على حجارة كريمة كان يرمز إلى ثبات مقام المؤمنين في المسيح، ويرمز أيضاً إلى مقامهم السامي في نظر الله من أجل شخصه المبارك. كما أنه كان يرمز إلى أنهم معروفون لدى الله، ليس ككل فقط، بل كأفراد أيضاً، فلكل منهم نصيب خاص من اهتمامه وعنايته. ووجود هذه الحجارة على الصدر كان رمز إلى تمتع المؤمنين المذكورين، ليس فقط بقدرة الله كما ذكرنا فيما سلف، بل وبمحبة قلبه أيضاً. ولذلك فمحبة الله قوته اللتان لا حد لهما، تضمنان معاً سلامة المؤمنين الحقيقيين وحفظهم في دائرة الرضا الإلهي (يوحنا10: 27و 28) إلى الأبد- حتى إذا تسرب الظن إلى بعضهم في وقت ما، أن المسيح لا يحبهم أو تركهم وشأنهم. وورود أسماء بني إسرائيل حسب ترتيب نزولهم حول خيمة الاجتماع كان يرمز إلى أن المؤمنين الحقيقيين، وإن كانوا جميعاً متحدين بالمسيح كراسهم، المقام من الأموات، ولهم جميعاً حياة أبدية على أساس كفارته الدائمة الأثر، لكن الله سيكافئ كل واحد منهم تبعاً لدرجة اقترابه منه تعالى، وبالحري تبعاً لمقدار الخدمة التي يقوم بها لأجل مجده (1كورنثوس3: 11- 15).

(ج)-أما "الأنوار والكمالات"، فهي جمع "نور وكمال"، وكانت الواسطة التي يتلقى بها رئيس الكهنة في العهد القديم، مشيئة الله في كل ظرف من الظروف، ولذلك وردت في الترجمة السبعينية باسم "صوت الوحي"، والأنوار رمز إلى ما في قلب ربنا يسوع المسيح من حق وبر، والكمالات رمز إلى ما في قلبه من محبة ونعمة (يوحنا1: 15). وهذه الصفات (أو بالحري هذه المبادئ) هي التي يتعامل الله معنا على أساسها. كما أننا إذا رجعنا إلى الإصحاح الأول من سفر الرؤيا، نرى المسيح ماشياً في وسط المنائر الذهبية "وعيناه كلهيب نار". وعبارة "لهيب نار" ترد في الأصل "أوريم" أي "الأنوار". ومن ثم تكون رمزاً إلى المسيح، بوصفه العارف بكل ما خفي وظهر من أمور، والذي يستطيع أن يقول لكل واحد منا "أنا عارف أعمالك" (رؤيا2: 2، 9، 13، 19، 3: 1، 8، 15).

3-المنطقة:

وكانت مصنوعة مما يصنع منه الرداء أيضاً، الأمر الذي يدل على ثبات صفات المسيح وعدم تعرضها للزيادة أو النقصان كما ذكرنا. والمنطقة وإن كانت علامة للقيام بالخدمة بكل همة ونشاط كما ذكرنا، لكن نظراً لوضعها ليس حول حقوى المسيح بل حول صدره (رؤيا1: 13)، لذلك يكون الغرض منها حفظ الصدرة (بما عليها من الأحجار الكريمة) مشدودة تماماً بصدر المسيح، حتى لا يكون هناك فاصل ما بينه وبين الصدرة المذكورة، الأمر الذي يشير إلى الارتباط الكلي الدائم بين المؤمنين وبين المسيح وعدم إمكان انفصال أحدهم عن محبته، في أي وقت من الأوقات (رومية8: 38و 39).

4-جبة الرداء:

وكانت تصنع من أسمانجوني، كما كانت تغطي جسد هرون كله. ولم تكن تصنع من أجزاء مثبت بعضها بالبعض الآخر بخيط (مثلاً)، بل كانت كلها قطعة واحدة لأنها كانت منسوجة من أولها إلى آخرها[7]. وبالإضافة إلى ذلك كانت حاشيتها من المتانة بمكان، حتى أنه لم يكن من الممكن أن يحدث بها تمزق ما. وكان يوجد في أطرافها رمانات من أسمانجوني وأرجواني وقرمز مع أجراس ذهبية، تطلق رنينها عند قيامه بالخدمة الكهنوتية- وإزاء ذلك نقول:

(أ)-إن لون الجبة الأسمانجوني أو الأزرق، رمز إلى مقام المسيح السماوي. وكونها قطعة واحدة لا أثر للخياطة فيها، رمز إلى وحدة صفات المسيح وانسجامها، أو بالحري رمز إلى كماله المطلق وعدم وجود أي فاصل بين بعض صفاته والبعض الآخر، فهو (مثلاً) لا يكون عادلاً في وقت ورحيماً في وقت آخر، بل يكون عادلاً ورحيماً في كل وقت من الأوقات، ومتانة الحاشية كانت ترمز إلى عدم وجود قوة في العالم تستطيع أن تؤثر على خدمته الكهنوتية. والرمانات رمز إلى الثمار التي كانت تتجلى في حياة المسيح وأعماله. وكون هذه الرمانات من أسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص مبروم رمز إلى أنها ثمار نقية صادرة من إنسان سماوي[8]هو الملك والفادي في نفس الوقت. والأجراس الذهبية كانت ترمز إلى الشهادة العلنية عن الحق الإلهي. وهي ترمز أيضاً إلى النغم السماوي الباهر الذي يصحب المسيح في كمل خدماته الكهنوتية، سواء أكانت متعلقة بإكرام الله، أم بخدمة المؤمنين. واقتران الرمان بالأجراس إشارة إلى اقتران تصرفات المسيح بشهادته، واقتران شهادته بتصرفاته[9].

(ب)-فضلاً عن ذلك نقول إنه إذا وضعنا أمامنا أن الجبة كانت أيضاً من ملابس الملوك والرؤساء (أخبار15: 27، حزقيال26: 16)، اتضح لنا أن رئيس الكهنة كان في مقام الملك أو الرئيس. وهذا الأمر لا يتحقق بدرجة مطلقة إلا في المسيح، فهو في ذاته الكاهن والملك معاً (عبرانيين7: 14، مزمور110: 4)، إذ له المجد الملكي وله أيضاً القلب الكهنوتي. كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن اللون الأرجواني مكون من اتحاد لونين الأزرق والأحمر، نرى أن هذا اللون إشارة إلى قيام المسيح بطبيعتين هما (كما نعلم) اللاهوت والناسوت. وعدم إمكان نزع أحد اللونين من الآخر بعد اتحادهما، إشارة إلى عدم انفصال لاهوت المسيح عن ناسوته. ولذلك كانت له كل حكمة الله وقداسته وقوته، وفي الوقت نفسه كانت له كل شفقة الإنسان الكامل ولطفه ووداعته، وهذا ما شاهدناه في تصرفاته له المجد على الأرض. فقد بكى مشاركة لأختي لعازر في حزنهما عليه مظهراً الإنسانية بكل معانيها، وفي الوقت نفسه أقام لعازر من الأموات بكلمة واحدة، مظهراً لاهوته بأجلى بيان (يوحنا11)[10].

5-القميص:

وكان منسوجاً من كتان نسيج الشباك (أي أنه كانت مخرماً). وكان رئيس الكهنة يلبسه فوق جسده مباشرة. وبذلك كان تحت الملابس الفاخرة ثوب أبيض بسيط رمزاً إلى أن المسيح مع جلاله الفائق المعرفة، كان في الباطن في غاية التواضع والنقاوة. والتواضع والنقاوة هما في الواقع من مستلزمات المجد الأدبي الرفيع، ولذلك كان هذا القميص قطعة من ثياب المجد والبهاء الخاصة برئيس الكهنة. ونظراً لأن هذا القميص كان من الكتان وفي الوقت نفسه كان مخرماً، فقد كان يحول دون نضح جسم هرون بالعرق، الأمر الذي يرمز إلى عدم صدور أي شيء من المسيح لا يتفق مع كماله المطلق ورائحته الذكية أمام الله، كما ذكرنا فيما سلف.

ومما تجدر الإشارة إليه أن كلمة "القميص" التي نحن بصددها، هي بعينها التي أطلقها الوحي على الأقمصة التي صنعها الله قديماً، ليستر بها العري الذي أحس بها آدم وحواء عند مخالفتهما لوصيته تعالى (تكوين3: 21)، ومن ثم يكون هذا القميص رمزاً أيضاً إلى بر الله في المسيح الذي يستطيع وحده أن يستر خطايانا، ويجعلنا بلا عيب أمامه.

6-العمامة:

وكلمة "العمامة" هذه مشتقة من العبرية من فعل معناه "يلف". وكانت تصنع من الكتان النقي. وبذلك فهي رمز إلى طهارة الرأس أو بالحري طهارة الفكر من كل النواحي- هذه الطهارة التي يجب توافرها في كل من يدنو من الله. وليس هناك من توافرت فيه هذه الصفة بدرجة مطلقة إلا بنا يسوع المسيح (مزمور17: 2).

كما أننا إذا نظرنا إلى غطاء الرأس كعلامة للخضوع (1كورنثوس11: 5- 10)، أو كعلامة للكرامة (زكريا3: 5) كما ذكرنا فيما سلف نرى أن المسيح هو وحده الذي توافرت فيه أيضاً هاتان الصفتان بدرجة مطلقة. فقد أطاع الله كل الطاعة (فيليبي2: 6- 9)، كما عاش بقداسة وكرامة لا تشوبهما شائبة (يوحنا8: 46).

7-الصفيحة الذهبية:

(أ)-وكانت هذه الصفيحة تثبت بخيط أسمانجوني على العمامة إلى جهة الوجه، وكان منقوشاً عليها عبارة: "قدس للرب". والكلمة العبرية الدالة على هذه الصفيحة يمكن أن تترجم أيضاً "الزهرة"، الأمر الذي يدل على أن القداسة هي أجمل ما يريد الله أن يراه في من يتقدمون إليه. وإذا جلنا بأبصارنا في كل ناحية من أنحاء العالم وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ لا نرى أحداً توافرت فيه القداسة الإلهية الكاملة سوى ربنا يسوع المسيح (عبرانيين7: 26) فهو لم يخضع للخطية مرة واحدة، بل كانت كل أفكاره ونواياه، وكل حركاته وسكناته، لأجل مج الله دون سواه. ومن دواعي غبطتنا أيضاً أنه على أساس اتحادنا الروحي بالمسيح بواسطة الإيمان الحقيقي به، قد صار له المجد هو قداستنا، كما صار حكمتنا وبرنا وفداءنا (1كورنثوس1: 30). ففيه صرنا، نحن الذين لا يسكن في أجسادنا شيء صالح (رومية7: 18)، قديسين وبلا لوم أمام الله (أفسس1: 1- 4)[11].

(ب)وبالإضافة إلى ذلك، فإن الغرض الأساسي من وضع الصفيحة المذكورة على جبهة رئيس الكهنة، كان الإعلان على أنه هو الذي يحمل كل لإثم يصدر من بني إسرائيل ضد أقداس الله، وذلك لكي يرضى الله عنهم. ولتطبيق هذه الحقيقة على عهد النعمة الذي نعيش فيه، نقول إن المؤمنين الحقيقيين، وإن كانوا قد ولدوا من الله ثانية، وسكن فيهم الروح القدس، وصارت لهم حياة أبدية بفضل كفاية كفارة المسيح، غير أنهم بسبب وجود الطبيعة العتيقة فيهم، قد تشوب عطاياهم وصلواتهم وخدماتهم للرب بعض الشوائب، كما ذكرنا فيما سلف. وما يحتاجون إليه في هذه الحالة، ليس الالتجاء إلى ذبيحة كفارية (لأن الكفارة التي قدمها المسيح لجلهم لا تتكرر مطلقاً تحت أي شكل من الأشكال)، بل الالتجاء إلى المسيح كرئيس الكهنة. فهو الظاهر في حضرة الله "قدساً لأجلهم أو بالنيابة عنهم"، وفي استحقاقاته التي لا حد لها أمامه تعالى، يظهرون أمامه كاملين وبلا عيب على الإطلاق (كولوسي1: 22، أفسس1: 4). كما أنه على أساس شفاعته من أجلهم وخضوعهم القلبي لكلمته، يتخلصون من كل نقص يمكن أن يوجد في أقداسهم أو بالحري في عطاياهم وصلواتهم وخدماتهم التي يقومون بها لأجل الله.

(ج)-أخيراً نقول إنه إذا وضعنا أمامنا أن الصفيحة المذكورة كانت تدعى الإكليل أو التاج (2صموئيل1: 10)، اتضح لنا أنها رمز أيضاً إلى أن رئيس الكهنة هو بمثابة ملك أمام الله. وليس هناك من توافرت فيه خواص الكهنوت والملك معاً بدرجة مطلقة، سوى ربنا يسوع المسيح (عبرانيين5: 6، مزمور110: 4، 2: 6) كما ذكرنا فيما سلف.


43-مما تجدر الإشارة إليه أن بعض المفسرين يقولون إن اللون الأرجواني كان رمزاً إلى ملك المسيح على اليهود، واللون الأحمر كان رمزاً إلى ملكه على العالم. ولكننا استصوبنا التفسير الذي ذكرناه، لتوافقه مع خواص المسيح المتنوعة.

44-فالله يذكر المؤمنين الحقيقيين دائماً أبداً كحجارة كريمة. وطبعاً ليس بسبب ما هم عليه بحسب طبائعهم الشخصية، بل بحسب ارتباطهم بالمسيح كأعضاء جسده من لحمه وعظامه (أفسس5: 30). وهذا هو السبب في مخاطبته لكل منهم بالقول: "صرت عزيزاً في عيني مكرماً. وأنا قد أحببتك" (إشعياء43: 4).

45-لأن وجودهم في المسيح شرعاً (أفسس1: 1و 3و 4..) يستر كل ضعف ونقص فيهم، وليس هذا فقط بل ويخلع أيضاً عليهم في نظر الله كمال المسيح نفسه.

46-فمثلاً "رأوبين" البكر الذي قيل عنه إنه لم يكن مستقراً (تكوين49: 4)، كان اسمه في أول القائمة، بينما يوسف وبنيامين المحبوبان كان اسماهما في آخرها.

47-لأنها تكون صادرة من الطبيعة الفاسدة، وكل ما يصدر من الفاسد يكون ملطخاً بالفساد- وهذا ما دعا إشعياء النبي للقول وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عدة (ليس أعمال شرنا فقط) بل وكل أعمال برنا (إشعياء64: 6)، لأنها تكون ملطخة بالكبرياء والأنانية، أو التقتير والمصلحة الذاتية، وغير ذلك من النقائص.

48-مما تجدر الإشارة إليه أن الحجارة الكريمة (أولاً) كانت متنوعة الألوان والخواص، وذلك للدلالة على المميزات التي كان يتميز بها كل سبط من أسباط بني إسرائيل، الأمر الذي يرمز إلى أنه مهما اختلف بعض المؤمنين الحقيقيين عن البعض الآخر، فإنهم جميعاً محمولون على صدر الرب كحجارة كريمة (ثانياً) كان خواص هذه الحجارة أنه كلما سطع عليها نور المنارة ازداد لمعانها، الأمر الذي يرمز إلى أن نور حضرة الله الباهر لا يقلل من لمعان هؤلاء المؤمنين بل بالحري يزيده كثيراً. وذلك بسبب وجودهم أمامه في المسيح.

49-فالجبة من هذه الناحية تذكرنا بالرداء الذي كان يرتديه المسيح. فقد كان من قطعة واحدة ومن ثم لم يكن من الممكن تقسيمه (يوحنا19: 23).

50-أما ثمار الإنسان الأرضي فيرمز إليها بالكرات والبصل (العدد11: 5)- ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن هناك فرقاً هائلاً بين الثمار الطيبة والأعمال الطيبة. فالثانية هي ما يفرض على المرء القيام بها. ومن ثم قد يقوم بها على مضض، وقد لا يقوم بها إطلاقاً. أما الأولى فهي ما يصدر من المرء كنتيجة سامية في نفسه. ولذلك يستطيع أن يمتنع عن القيام بها أو يؤديها كمجرد أمر تدفعه طبيعته البشرية إليه، بل يقوم بها عن رضا وسرور بعمل الروح القدس في نفسه، غير ناظر إلى جزاء أو ثواب- وهذا ما يحدث مع المؤمنين الحقيقيين.

51-أما من جهتنا، فللأسف قد لا تتمشى أحياناً تصرفاتنا مع شهادتنا، فقد تكون الثانية لامعة وتكون الأولى غير لامعة، ومن ثم لا يكون لحياتنا نغم طيب في مسمع إلهنا، الأمر الذي يترتب عليه تعطيل شركتنا معه- وهذا ما كان يرمز إليه قديماً بالموت الذي كان يصيب رئيس الكهنة عندما تخفت صوت أجراسه.

52-ويعوزنا الوقت إذا حاولنا إبرار هذه الحقيقة الثمينة في تصرفات المسيح المتعددة، ولذلك نكتفي بالحادثتين الآتيتين على سبيل المثال (أ) لما كان المسيح كإنسان نائماً مرة في سفينة وهبت عليها عاصفة شديدة كادت تغرقها بمن فيها، قام من النوم وانتهر العاصفة فهدأت في الحال وبذلك أظهر أنه أيضاً هو الله الذي له السلطان المطلق على الطبيعة وكل ما يحدث فيها (لوقا8: 22- 25). (ب)وعندما طلب منه الجباة كإنسان ضريبة الدرهمين. أظهر لاهوته في معرفة النقود التي كانت في أحشاء سمكة سابحة في البحر، وفي خروج هذه السمكة نفسها بواسطة الشبكة التي يلقيها تلميذه بطرس بالذات. وفي الوقت نفسه وقف كإنسان بجوار بطرس هذا جنباً إلى جنب قائلاً له أن يأخذ النقود التي كانت في السمكة ويدفع عنه وعن نفسه معاً (متى17: 24- 26).

53-كما أن القداسة العملية التي يريد الله أن يراها فينا، لا تكون ناتجة منت المجهودات الذاتية (لأن هذه محدودة وناقصة)، بل ناتجة من عمله الكامل في نفوسنا، وهي في حالة التكريس الصادق له.

  • عدد الزيارات: 5967