Skip to main content

الحجج الخاصة بقيادة الكنيسة، والرد عليها

الباب الأول: الحجج الخاصة بقيادة الكنيسة، ورياسة اجتماعات العبادة

1- [ إن الرياسة الدينية ضرورية لقيادة الكنيسة ؛ وبما أن المسيح بصعوده إلى السماء لم يعد رئيساً منظوراً لها، لذلك فإن من يشغل هذا المركز هو البطريرك، الذي كان يطلق عليه في أول الأمر "الأسقف" ـ فقد قال الرسول عنه إنه وكيل الله (تيطس 1: 7).

الرد: فضلاً عن أن الوحي يعلن بعبارات صريحة أن المسيح وحده هو رأس الكنيسة (كولوسي 1: 18)، وأنه وحده هو الذي يعتني بها طوال وجودها على الأرض، حتى يأتي بها إلى مجده بلا عيب في الابتهاج، كما يتضح من (يهوذا 1: 24)، وأننا كمؤمنين يجب أن نتجه ليس إلى ما يرى بل إلى ما لا يرى (2كورنثوس 4: 18)، أو بالحري إلى من لا يرى، إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع المسيح (عبرانيين12: 2)، الأمر الذي لا يدعو إلى وجود وكيل أو خليفة له على الأرض، نقول:

(أ) إن المسيح لم يظل ميتاً بعد صلبه مثل الناس الذين يموتون بالصلب أو بغيره، حتى كان يستلزم الأمر وجود خليفة له، بل قام له المجد من الأموات في اليوم الثالث. وهو الآن حي في السماء، وسيبقى كذلك إلى أبد الآباد (رؤيا1: 18)، إذ لا يمكن أن يسود عليه الموت فيما بعد (رومية 6: 9) ـ هذا فضلاً عن أنه له وحده البقاء أو عدم الموت. لذلك فإنه وإن كان لا يوجد بناسوته مع المؤمنين الحقيقيين الذين تتكون منهم كنيسته على الأرض في الوقت الحاضر، غير أنه يوجد معهم بلاهوته. فقد قال "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون وسطهم"
(متى 18: 20) ؛ كما قال لجميع المؤمنين الحقيقيين ممثلين في الرسل "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28: 20). ووجوده بلاهوته معنا، لا يقل في شيء بالنسبة لنا، عن وجوده معنا بناسوته، إن لم يكن أفضل ؛ إذ بالإضافة إلى أن علاقتنا به، يجب أن تكون علاقة روحية لا جسدية (لأن معظم الذين رأوه بالجسد، لم يؤمنوا به أو يفيدوا منه)، فقد قال لتلاميذه إنه خير لهم أن ينطلق، لأنه إن لم ينطلق لا يأتيهم الروح القدس. أما متى جاء هذا الروح، فإنه بسكناه فيهم يرشدهم إلى جميع الحق. كما يأخذ مما له (أي مما للمسيح) ويخبرهم (يوحنا 16: 14).

وإذا كان الأمر كذلك، فالقول بوجوب وجود خليفة للمسيح على الأرض ليتولى الرياسة الدينية على المؤمنين، فضلاً عن أنه ليس له أساس في الكتاب المقدس، هو تنكر لوجود المسيح بلاهوته مع المؤمنين في الوقت الحاضر، كما أنه تنكر لحقيقة إمكانية اتصال هؤلاء المؤمنين به عن طريق الروح القدس الساكن فيهم (1 كورنثوس 6: 9).

(ب) إن البطريرك الذي يقال إنه خليفة المسيح، قد يكون شخصاً مجرداً من المواهب الروحية، بل وقد يكون أيضاً شخصاً شريراً([1]). ومن ثم لا يكون هو نفسه واحداً من الكنيسة الحقيقية (لأن هذه تتكون فقط من المؤمنين الحقيقيين الذي ولدوا من الله[2]، ولهم علاقة حقيقية معه بالروح القدس الساكن فيهم). وشخص ليس واحداً من الكنيسة الحقيقية، لا يمكن أن يكون رئيساً حقيقياً لها ـ إن كان هناك مجال لوجود رئيس من البشر عليها. أما إذا كان هذا الشخص مؤمناً حقيقياً، فإن ضميره يأبى عليه أن يدعى رئيساً للكنيسة أو خليفة للمسيح، إذ فضلاً عن أنه يعرف حقارة شأنه كإنسان في جسد الضعف والخطيئة مثل باقي الناس، لا يمكن أن يسلب الربّ حقوقه، أو يحرم شعبه من الصلة المباشرة به. ولذلك يرى أن الفخر له وكل الفخر في أن يكون عبداً للمسيح، وواحداً مع باقي المؤمنين، بل وخادماً لهم جميعاً، كما كان الرسل يعتبرون أنفسهم قديماً (رومية 1: 1، 2 كورنثوس 4: 5).

(ج) هذا ويؤسفنا كل الأسف أن يكتفي صاحب هذه الحجة (إن جاز أن تسمى حجة) بكلمتين من آية ويترك ما بقي منها، حتى لا ينكشف ما في حجته من مغالطة. فنصّ الآية التي أشار إليها هو: "لأنه يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل الله" ـ فهو كوكيل الله ليس من ناحية المقام أو المركز، لأن الله لا يعطي مجده لآخر (إشعياء 4: 8)، بل من ناحية السلوك بلا لوم في العالم الحاضر. لكن بعض القائلين إنهم خلفاء للرسل لا يفهمون هذه الحقيقة، إذ يعتقدون أنهم في مركز وكلاء الله من حيث المقام بالنسبة إلى المؤمنين، حتى ذهب نفر منهم إلى أنهم آلهة المسيحيين على الأرض، كما جاء في الدسقولية (ص 65)، ومن ثم يطالبون أتباعهم بالسجود أحياناً أمامهم ! !.

(د) أخيراً نقول: إذا وضعنا أمامنا (أولاً) أن الرسل لم يدعوا المؤمنين رعيتهم بل رعية الله (1بطرس 5: 2)، والرعية تتبع راعيها وليس شخصاً آخر (يوحنا10: 4) (ثانياً) أنهم طلبوا من المؤمنين أن يلتصقوا بالربّ وحده (1 كورنثوس 6: 17)، كما أعلنوا لهم أنه أسقفهم وراعيهم الذي يجب أن يرجعوا إليه في كل أمورهم (1 بطرس 2: 5). (ثالثاً) أنه لما تحيّز كل فريق من المؤمنين في العصر الرسولي إلى رسول أو مبشر خاص، وبّخهم بولس الرسول بكل شدّة قائلاً لهم "إن كان واحد منكم يقول أنا لبولس، وأنا لأبلوس، وأنا لصفا، وأنا للمسيح، هل انقسم المسيح ؟! ألعلّ بولس صلب لأجلكم ؟!" (1كورنثوس 1: 12)، اتّضح لنا بصفة قاطعة أن الرسل لم يقيموا أنفسهم رؤساء على المؤمنين، أو أقاموا خلفاء لهم ليكونوا رؤساء على هؤلاء المؤمنين.

2- [ إن الرسل بإقامتهم أساقفة وقسوساً، وضعوا مبدأ الرياسة الدينية، لأنه لم يكن هناك داعٍ لوجود فئتين من رجال الدين، إحداهما أعلى مكانة من الأخرى، إذا لم يكن هناك مثل هذا المبدأ ].

الرد: إن كلمة أسقف معربة من الكلمة اليونانية "أبسكوبوس"، ومعناها ناظر. وكلمة قسيس معربة من الكلمة السريانية "قشيشو"، ومعناها شيخ أو شخص متقدم في السن. وهاتان الكلمتان لا علاقة لهما بالكهنوت أو غيره من الشؤون الدينية. لأن العمل الرئيسي للكهنة بالمعنى الحرفي، هو تقديم الذبائح الكفارية. وهذه الذبائح لم يبق لها وجود بعد كفارة المسيح، كما ذكرنا في كتاب "كهنوت المسيح "ـ فضلاً عن ذلك فإنه بالرجوع إلى الكتاب المقدس يتّضح لنا أن الأسقف هو القسيس (أو بالحري هو الشيخ) نفسه، كما يتضح لنا ما يلي:

(I) قال الوحي عن بولس الرسول إنه من ميليتس استدعى قسوس الكنيسة. فلما جاءوا إليه، قال لهم: احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية أقامكم الروح القدس فيها أساقفة([3]) (أعمال 20: 17-28)، وهذا دليل على أن القسوس الذين استدعاهم الرسول هم الأساقفة، وليسوا أشخاصاً غيرهم.

(II) وقال بولس الرسول لتيطس "من أجل هذا تركتك في كريت لكي تكمل ترتيب الأمور الناقصة، وتقيم في كل مدينة شيوخاً أو (قسوساً) كما أوصيتك. إن كان أحد بلا لوم، بعل امرأة واحدة، له أولاد مؤمنون ليسوا في شكاية الخلاعة ولا متمردين. لأنه يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل الله (تيطس 1: 5-7)، الأمر الذي يدل على أن الشيوخ أو القسوس الذين أوصى بولس الرسول تيطس بإقامتهم، هم الأساقفة أنفسهم.

(ج) وقال أيضاً لتيموثاوس "إن ابتغى أحد الأسقفية، فيشتهي عملاً صالحاً. كذلك يجب أن يكون الشمامسة([4]) ذوي وقار (1تيموثاوس 3: 1-13). فالرسول لا يذكر هنا سوى فئتين هما: الأساقفة والشمامسة. وبما أنه لو كان هناك قسوس أيضاً وقتئذٍ كأشخاص غير الأساقفة، لكان الرسول قد أشار إليهم. لأنه ليس من المعقول أن يكون قد أشار إلى الأساقفة والشمامسة دون أن يشير إلى هؤلاء القسوس، لذلك لا بدّ أن الأساقفة (في ضوء ما ذكرنا فيما سلف) هم ذات القسوس.

(د) وقال بولس الرسول أيضاً لأهل فيلبي "إلى جميع القديسين الذين في فيلبي مع أساقفة([5]) وشمامسة" (فيلبي 1: 1) ـ فالرسول لا يذكر هنا سوى فئتين كذلك، هما الأساقفة والشمامسة، وبما أنه ليس من المعقول إطلاقاً أن يكون الرسول قد نسي القسوس (إن كان لهم وجود في أيامه كأشخاص يتميزون عن الأساقفة)، أو يكون هؤلاء القسوس قد سافروا جميعاً وقتئذٍ من فيلبي، أو انتقلوا إلى السماء معاً في وقت واحد، إذن لا بدّ أن الأساقفة هم القسوس كما ذكرنا.

(هـ) كما أننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن عمل الأسقف هو ذات عمل القسيس أو الشيخ. فقد قال بطرس الرسول للقسوس أو الشيوخ "ارعوا رعية الله التي بينكم" (1 بطرس 5: 1-2). اقرأ أيضاً (أعمال 20-28).

وقال بولس الرسول عن الأساقفة أن يكونوا ملازمين للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم، لكي يكونوا قادرين أن يعظوا بالتعليم الصحيح ويوبّخوا المناقضين (تيطس 1: 7-9)، أو بالحري أن يرعوا المؤمنين ويصدوا عنهم المعلمين الكذبة.

كما نرى أن الشروط الواجب توافرها في الأسقف، هي بعينها التي يجب توافرها في القسيس. فقد قال الرسول عن الأسقف إنه "يجب أن يكون بلا لوم بعل امرأة واحدة، صاحياً عاقلاً محتشماً([6])، مضيفاً للغرباء، صالحاً للتعليم، غير مدمن للخمر، ولا ضراب ولا طامع بالربح القبيح، بل حليماً غير مخاصم ولا محب للمال، يدبر بيته حسناً. له أولاد في الخضوع بكل وقار". وقال عن الشيخ أو القسيس إنه "يجب أن يكون بلا لوم بعل امرأة واحدة، له أولاد مؤمنون ليسوا في شكاية الخلاعة ولا متمردين … غير معجب بنفسه ولا غضوب ولا مدمن الخمر ولا ضراب ولا طامع في الربح القبيح، بل مضيفاً للغرباء، محباً للخير، متعقلاً باراً ورعاً ضابطاً لنفسه، ملازماً للكلمة الصادقة" (1تيموثاوس 3: 7، تيطس 1: 5-7) الأمر الذي يدل على أن القسيس هو الأسقف كما ذكرنا.

مما تقدم يتضح أن الأشخاص المذكور أنهم شيوخ في (تيطس 1: 5، 1بطرس 5:1) هم أنفسهم المذكور أنهم قسوس في (أعمال 14: 23، 20: 7)، وأن هؤلاء الأشخاص يدعون قسوساً أو شيوخاً بالنسبة إلى سنهم، ولكن يدعون أساقفة (تيطس 1: 5-7) بالنسبة إلى عملهم وهو النظارة أو الرعاية.

(و) أما عن دعوى بعض المسيحيين [بأن الأسقف وإن كان يتفرّد بالقيام بأعمال خاصة، غير أنه (كما يرون لديهم) يعمل في معظم الأحيان عمل القسيس، ومن ثم يجوز أن يسمى قسيساً، مع أنه في ذاته ليس كذلك] فنقول: فضلاً عن الأدلة السابق ذكرها التي تثبت أن المراد بالأسقف والقسيس شخص واحد، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذه الدعوى، فإن الكتاب المقدس لا يدعو الأسقف قسيساً حتى كان يجوز للمسيحيين المذكورين أن يتذرّعوا بها، بل يدعو القسيس أسقفاً كما يتّضح من (الأعمال 20: 17-28)، وهذا لا يجوز إلاّ إذا كان القسيس الأسقف بعينه. فإذا أضفنا إلى ذلك، أنه ليست هناك آية واحدة تنص على أن الرسل أقاموا في بلدة ما أساقفة وقسوساً، أو أنه اجتمع في مكان واحد أساقفة وقسوس، لا يبقى هناك مجال للشك في أن الأسقف هو القسيس بعينه كما ذكرنا ـ وقد أشار إلى هذه الحقيقة الراهب الفاضل متى المسكين فقال "يستخدم سفر الأعمال كلمة قسوس وأساقفة معاً لنفس الأشخاص، باعتبار أن القسوسية اسم وظيفة، والأسقفية طبيعة عملها" (المواهب ص 33).

هذا وقد عرف القدماء أيضاً هذه الحقيقة، فقال اقليمس أسقف روما في القرن الأول "إن أصحاب الرتب هم الأساقفة والشمامسة، وقد يدعون مجلس الشيوخ" (تاريخ الآباء في القرون الثلاثة الأولى ص15). فاقليمس لم يذكر قسوساً، مع الأساقفة والشمامسة، الأمر الذي يدل في ضوء ما ذكرناه على أن الأساقفة كانوا هم القسوس أنفسهم، كما أن قوله إن الأساقفة مع الشمامسة كانوا يدعون مجلس الشيوخ يدل على أن الشمامسة لم يكونوا أولاداً، بل كانوا مع الأساقفة ينتخبون من الأشخاص المتزوجين، والذين لهم أولاد أيضاً كما ذكرنا فيما سلف. ومن ثم ليس هناك مجال للحجة التي أمامنا.

3- [إن الله أمر موسى قديماً أن يتخذ يشوع بن نون خليفة له. كما أن الرسل أقاموا متياس ليكون واحداً معهم عوضاً عن يهوذا الإسخريوطي الذي خنق نفسه. وهذا دليل على أن الله يريد أن يكون هناك خليفة للأنبياء والرسل ليتولوا قيادة المؤمنين].

الرد: (أ) إن موسى لم يتخذ من تلقاء نفسه يشوع خليفة له. بل الله هو الذي أمره بتعيينه في هذا المركز (العدد 27: 18). لأنه تعالى لم يشأ أن يقوم موسى بإدخال اليهود قديماً إلى كنعان، وذلك بسبب ما أبداه مرة من عدم الإيمان (العدد 27: 13-14، يشوع 1: 2). ولكن نظراً لأن يشوع تمم العمل الذي عينه الله لأجله، لم يطلب تعالى منه أن يقيم أحداً في مكانه ليكون خليفة له.

ومما يثبت أن الله لم يشأ مطلقاً أن يكون هناك رؤساء على المؤمنين سواه، بل أن يظلّ تعالى هو وحده الرئيس عليهم والقائد لهم، أنه عندما طلب اليهود من صموئيل النبي بعد ذلك أن يقيم لهم ملكاً يتقدم جيوشهم في الحروب (وإن كان طلباً مثل هذا لا غبار عليه من وجهة نظر الحكمة البشرية)، اعتبره الله رفضاً منهم لسيادته عليهم. إذ أن علاقتهم به كشعبه، كانت تقضي عليهم أن يعتمدوا عليه في كل أمورهم. لأنه تعالى فضلاً عن وجوده معهم وقتئذٍ في كل حين، كان هو الكفيل بإمدادهم بكل معونة يحتاجون إليها، طالما كانوا سالكين بالأمانة أمامه.

(ب) أما الرسل فقد أقاموا متياس معهم لكي يبقى عددهم اثني عشر، كما كان من قبل (أعمال 1: 15-16)، وليس لكي يكون متياس خليفة ليهوذا الإسخريوطي، لأن هذا لم يكن بالشخص الذي يقام له خليفة ـ إن كان من الواجب أن يكون هناك خلفاء للرسل … لكن لو كان الله قصد حقاً أن يكون هناك خلفاء لهم، لكان قد أمرهم بتعيين خليفة ليعقوب الرسول الذي استشهد في سبيل نشر الإنجيل (أعمال 12: 3، متى 4: 21). وبما أنه لم يأمرهم بذلك، لا يبقى هناك مجال للقول بأحقية الخلافة الرسولية.

4- [إن التاريخ يثبت أن بطاركة الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية هم خلفاء الرسل، لأنهم هم الذين تولوا قيادة المؤمنين بعد انتقال الرسل إلى السماء].

الرد: (أ) لو كان الرسل قد أقاموا خلفاء لهم. لكان يوجد في أول الأمر 13 خليفة (لأن الرسل بعد صعود المسيح إلى السماء كانوا، بإضافة متياس وبولس، 13 رسولاً)، أو بالحري لكان يوجد (13 + 70) 83 خليفة (لأن مرقس أحد السبعين رسولاً له، كما يُقال، خليفة خاص به) ؛ ولكن بالرجوع إلى التاريخ، نرى أنه لم هناك لغاية القرن الخامس سوى خمسة أشخاص، كما يقال إنهم بطاركة أو خلفاء للرسل، وكان هؤلاء يُقيمون في روما والقسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية وأروشليم([7])، وهذا دليل واقعي على أنه لا الرب أمر تلاميذه بإقامة خلفاء لهم، ولا هم أقاموا مثل هؤلاء الخلفاء.

(ب) فإذا أضفنا إلى ذلك (أولاً) أن شخصاً ينتخب بواسطة رجال الدين أو أفراد الشعب لكي يصبح خليفة لرسول ما، لا يكون خليفة له إلاّ من الناحية الإسمية، لأن الخليفة الحقيقي للرسول هو المعين بواسطته شخصياً للخلافة، وذلك بناءً على أمر الله نفسه، كما كانت الحال في إقامة يشوع بواسطة موسى النبي. (ثانياً) إن الأشخاص الذين يقال إنهم خلفاء للرسل ليسوا مملوئين من الروح القدس مثل الرسل، أو حاصلين على مواهب روحية أو معجزية مثل مواهبهم، اتضح لنا أن وجودهم في مراكزهم لا يقوم على أساس كتابي أو عقلي.

الاعتراضات والرد عليها

1- [إن مواهب الرسل كانت وقفاً عليهم. ومن ثم فعدم توافرها في البطاركة لا يمنع من كونهم خلفاء للرسل ].

الرد: إن من يشغل مركزاً، يجب أن يكون حاصلاً على المواهب (أو بالحري المؤهلات) الخاصة به، وإلاّ فلا يليق به أن يشغله.

2- [إن هؤلاء البطاركة يعينون بعد الصلاة وعمل القرعة، ومن ثم يكون تعيينهم بواسطة الله نفسه ].

الرد: (أ) بالرجوع إلى الكتاب المقدس، يتضح لنا (أولاً) أن الصلاة المستجابة يجب أن لا تكون فقط صادرة عن إيمان وإخلاص ولجاجة وحياة مقدسة، بل يجب أن تكون أيضاً حسب مشيئة الله (1 يوحنا 5: 14) وبما أن الله لم يشأ أن يكون هناك خلفاء للرسل، لذلك فإن الصلاة إليه لكي يختار خليفة لواحد منهم، لا تحظى بأي قبول لديه. (ثانياً) إن الرسل لم يلجأوا إلى القرعة إلاّ قبل حلول الروح القدس عليهم. أما بعد ذلك فلم يلجأوا إليها على الإطلاق، سواء في اختيار الأساقفة، أو في الانتقال من مكان إلى مكان أو … أو … لأن الروح القدس كان يعلمهم كل شيء (يوحنا 14: 26) كما كان يأخذ من المسيح ويخبرهم (يوحنا 16: 14). وهكذا يجب أن يكون الحال معنا، لأن هذا الروح نفسه سكن فينا بمجرد إيماننا بالمسيح إيماناً حقيقياً (1كورنثوس 6: 18)، ولذلك نستطيع الإفادة من هديه كما استطاعوا. فإذا أضفنا إلى ما تقدم، أن القرعة لم يكن يلجأ إليها أحد إلاّ في الموضوعات التي لم يعلن الله مشيئته من جهتها. لكن من جهة الموضوع الذي نحن بصدده أعلن أنه لا يشاء أن يكون هناك خلفاء للرسل، لذلك يكون الالتجاء إلى القرعة لاختيار هؤلاء الخلفاء، باطل من أساسه.

(ب) ولو فرضنا جدلاً أنه يجوز استعمال القرعة في العهد الجديد بشأن ما يدعى الخلافة الرسولية، لكان الواجب على القائلين بها أن لا يعملوها بين من وقع عليهم اختيار الشعب فحسب، بل أن يضيفوا إلى الأوراق التي عليها أسماء المختارين منه، أوراقاً أخرى ليست عليها أسماء، إذ من المحتمل أن يكون الله غير موافق على واحد من هؤلاء المختارين. لكن الذين يعملون القرعة يقيدون الله بتعيين واحد من الذين اختارهم الشعب، والحال أن الله لا يتقيد بقيد ما ؛ ومن ثم يكونون هم الذين عينوا البطاركة وليس الله.

كيفية تكون الخلافة الرسولية

إذا رجعنا إلى العصر الرسولي، نرى أنه على الرغم من روح الوداعة الطيبة التي كان ينشرها الرسل في كل مكان في أول الأمر، كان يظهر حتى في أيامهم أشخاص يريدون أن يكونوا رؤساء على المؤمنين، كما يتضح مما يلي:

1- فقد أراد شخص يدعى ديوتريفس أن يكون الأول بين جماعة المؤمنين. لا بل وقد بلغ به الغرور حداً بعيداً، حتى أنه رفض أن يقبل رسولاً من رسل المسيح يعتبر أوفرهم محبة وأكثرهم وداعة، ألا وهو يوحنا الحبيب. فضلا عن ذلك، كان لا يقبل الإخوة ـ أو بالحري المؤمنين الحقيقيين الذي لا يتخذون لهم رئيساً سوى الرب، سواء في العبادة أو الخدمة (3 يوحنا 9: 10) لكي يتفرد بالرياسة فيهما معاً.

2- والمؤمنون في كورنثوس الذين منحهم الرب من المواهب ما لم يمنحه لغيرهم، وكنا ننتظر أن يكونوا جميعاً أكثر المؤمنين تواضعاً، ظهر بينهم أشخاص امتلئوا زهواً وكبرياء، فأهانوا بولس الرسول وادعوا أنهم رؤساء الشعب وممثليه (2 كورنثوس 10: 12).

3- والنقولاويون (أو بالحري المنتصرون على الشعب) تمردوا على أصحاب المواهب الروحية، وبثوا التعاليم الفاسدة بين بعض المؤمنين، وادعوا أن لهم دون غيرهم حق الرياسة الدينية (رؤيا 2: 6 و 15)، ومن ثم بسطوا نفوذهم على هؤلاء المؤمنين واقتادوهم إلى الضلال الأدبي والتعليمي([8])، وإذا رجعنا إلى القرنين الثاني والثالث نرى:

1- إن الإنجيل كان قد انتشر في أول الأمر في المدن الكبيرة فحسب، ومن ثم كان الأساقفة أو القسوس يقيمون جميعاً هناك. ولما انتقلت الكرازة بالإنجيل إلى القرى بعد ذلك، أقاموا أشخاصاً عرفوا بأساقفة أو قسوس الأقسام، لكي يرعوا المؤمنين في هذه القرى. ومن ثم كان أساقفة القرى أو قسوسها يعتبرون أقل مرتبة من أساقفة أو قسوس المدن.

2- إن بعض أساقفة أو قسوس المدن أخذوا يتطاولون للرياسة على البعض الآخر. وكان أمراً طبيعياً أن تؤول الرياسة، في العالم الشرير الذي نعيش فيه، ليس إلى أتقاهم، بل إلى أعظمهم سيطرة وتأثيراً وكان أمراً طبيعياً أيضاً أن لا يرضى هذا الشخص بأن يشترك مع إخوانه في لقب واحد. ومن ثم احتكر لنفسه لقب أسقف، الذي يدل على النظارة، وترك لهم لقب "القسوس". وذلك للتمييز بينه وبينهم، مع أن الأسقف هو القسيس والقسيس هو الأسقف كما ذكرنا !! فقد قال جيروم المؤرّخ الكاثوليكي المتوفى سنة 420م "كان القسيس عند القدماء هو الأسقف، ولكن بالتدريج نبتت بذور النـزاع بين القسوس، فوضعت مهام القيادة في يد شخص واحد، دعي وحده الأسقف" (المبادئ الإلهية ص65).

وقال غيره "إنه بعد انتقال الرسل إلى السماء بسنوات، استحسن كثير من القسوس أن يقيموا لهم رئيساً مشهوراً بالرزانة والتقوى والفطنة لكي يوزّع عليهم أعمالهم، ويوحد صفوفهم. وقد أطلقوا على هذا الشخص وحده لقب أسقف، واحتفظوا لأنفسهم بلقب القسوس. ومن ثم أصبح الأسقف هو رئيس القسوس الذي يقوم بتعيينهم في وظائفهم وصرف مرتباتهم وتأديبهم عند تقصيرهم (تاريخ الكنيسة لموسهيم ص27 و 31 و 32 و 63 و 64 و 112)، مع أن القسوس لم يكونوا في العصر الرسولي يخضعون إلاّ للرب وحده، ولا ينفذون إلا إرادته وحده، كما كانوا مع قيامهم بالخدمات الروحية، يمارسون حرفهم وأعمالهم الخاصة، لكي يعولوا أنفسهم وعائلاتهم.

وقد أشار الراهب الفاضل متى المسكين إلى هذه الحقيقة فقال "وبمرور الزمن صار من المحتم إقامة واحد من القسوس يتقدمهم. وصار هذا المتقدم له اختصاصات النظارة العليا، فاختص بلقب الأسقف دون غيره، ومن هنا بدأت كلمة أسقف تأخذ معنى مفضلاً عن القس. وبالتالي بدأت اختصاصات الأسقف تتميز عن اختصاصات القس باعتبار الأسقف رئيساً على الكنيسة كلها … ولكن في البدء لم يكن هناك تفريق بين كلمة القس وكلمة الأسقف في شيء" (المواهب الكنسية ص33).

3- ولما ازداد عدد الأساقفة في القرن الثالث، انتخب أساقفة كل قطر رئيساً لهم، دعي "رئيس الأساقفة" ليتولى تنظيم أعمالهم وتوحيد صفوفهم ثم تشكل هذا اللقب بأشكال مختلفة، فدعا أحد رؤساء الأساقفة نفسه "بطريركاً". وهذه الكلمة معناها "رئيس عشيرة "، وكانت تطلق على نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وغيرهم من الآباء الذين عاشوا قبل اليهودية. ودعا آخر نفسه "بابا "، وهذه الكلمة معناها
" أب آباء "، وهي مستعارة من اليهودية، فداود النبي كان يدعى "رئيس الآباء" (أعمال 2: 9). واستحسن غيره أن يدعو نفسه "حبراً "أي عالماً. وهذا اللقب كان يطلق قديماً على أعظم كهنة الوثنيين مقاماً. وقد أشار إلى ذلك كتاب (اللآلئ النفيسة في شرح طقوس ومعتقدات الكنيسة حـ2 ص273).


([1]) - يؤسفنا أن نسجل هذه العبارة، ولكن من يطلع على تاريخ باباوات روما، يتضح له أننا لسنا مغالين في نعت بعضهم بالشر. وإننا بقولنا هذا لا نقلل من شأن رجال الدين، بل نعلن فقط أن الوظائف الدينية لا تدل على نقاوة قلوب شاغليها، إذ أن هذه لا تنقيها سوى التوبة والإيمان الحقيقي.

([2])- درسنا هذه الولادة بالتفصيل في كتاب "فلسفة الغفران في المسيحية".

[3] - مما تجدر ملاحظته في هذه الآية أنها تعلن لنا أن القسوس لم يقاموا أساقفة على الكنيسة، بل أقيموا أساقفة فيها. الأمر الذي يدل على أن رأس الكنيسة هو المسيح وحده، وأن الأساقفة (أو القسوس) مع باقي المؤمنين الحقيقيين، هم جنباً إلى جنب، أعضاء في هذه الكنيسة.

[4] - كلمة "شماس" معربة عن الكلمة السريانية "مشمشونو"، ومعناها "خادم"، بالمعنى العام لدينا. فكلمة "خدام" في الآية "وقالت أمه للخدام: مهما قال لكم، افعلوه" (لوقا 5: 5)، ترد في السرياني شمامسة. أما المهمة التي كان يقام الشمامسة لأجلها في أول الأمر، فكانت العناية بالأرامل (أعمال 6: 1-7). ومن ثم كان من الواجب أن يختاروا من الرجال الأتقياء المتزوجين، والذين لهم أولاد (تيموثاوس 3: 12)، وذلك حتى لا يشتبه أحد في سلوكهم أثناء قيامهم بهذه المهمة. ولكن لما تفرد القسوس بالصلاة في بعض الطوائف، اتخذوهم مساعدين لهم في أدائها.

[5] - من هذا يتضح لنا أنه في العصر الرسولي، لم يكن في الكنيسة الواحدة (على الرغم من تكونها من عدد قليل من المؤمنين، بالنسبة إلى أي كنيسة في العصر الحاضر) أسقف واحد، بل أساقفة، أو بالحري أساقفة كثيرون. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الأساقفة كانوا يتّصلون بكل المؤمنين، أغنياء كانوا أو فقراء، ويهتمون بكل واحد منهم اهتماماً خاصاً. وذلك على النقيض مما يجري الآن في كنائس القائلين بالخلافة الرسولية. فإن من يقال عنه "الأسقف" عندهم، هو رئيس كبير لا يقوم بما كان يقوم به الأسقف قديماً من الرعاية لكل واحد من المؤمنين على حدة.

[6] - لأنه فضلاً عن وجوب اتصافه كمسيحي بهذه الصفة، فقد كان من عمله الاتصال بالعائلات للعناية بأمورها الروحية.

[7] - عن: المسيحية في القرون العشرة الأولى ص114-115، والكنيسة من البدء إلى القرن العشرين ص95.

[8] - ذهب البعض إلى أن زعيم النقولاويين هو نقولاوس أحد الشمامسة الذين أقامهم تلاميذ المسيح للعناية بالأرامل (أعمال 6: 5). لكن ليس هناك أي دليل تاريخي يثبت ما ذهبوا إليه. لأن الاسم الواحد قد يطلق على شخص بار كما يطلق على شخص شرير. لكن ما أجمع عليه المؤرخون هو أن النقولاويين هم النواة التي تكونت منها جماعة الغنوسيين. وقد تحدثنا عنهم كثيراً في كتاب "صلب المسيح ـ وموقف الفلاسفة الغنوسيين إزاءه".

  • عدد الزيارات: 4465