الفصل السادس: عهد النعمة
طالما قدم جميع البشر في كل زمان ومكان الجواب عن السؤال المطروح في آخر الفصل السابق، الجواب الذي يُفيد أن البشر، على حالهم تلك، لا يستطيعون الظهور أمام وجه الله ولا المكوث في حضرته. فما من أحد يمكنه أن يقول، أو يجرؤ على القول: إني زكيّت قلبي، تطهرت من إثمي (أمثال 20: 9). وكل امرئ يشعر في نفسه أنه مذنب ومدنَّس، وكلٌّ يعترف، أمام نفسه على الأقل إن لم يكن أمام الآخرين، بأنه ليس كما ينبغي أن يكون. حتى الخاطئ والقاسي القلب يمر بلحظات تسيطر عليه فيها مشاعر القلق والاضطراب، والبار في عيني نفسه يظلُّ يأمل في اللحظة الأخيرة أن يغض الله الطرف عما ينقصه ويرضى بحُسن نيته.
صحيح أن كثيرين يحاولون طرد هذه الأفكار الخطيرة من أذهانهم وينغمسون في الحياة كما لو كان الله غير موجود والوصية غير واضحة. وهم يخدعون أنفسهم بالتعلُّل بأن ليس إله (مزمور 14: 1)، وانه غير معنيٍّ بخطايا البشر بحيث إن كل من يفعل الشر هو صالح في عينيه تعالى (ملاخي 2: 17)، وأنه لا يتذكر الشر ولا يراه (مز 10: 11؛ 94: 7)، أو لأنه المحبة الكاملة فهو لا يُطالب ولا يُعاقب على الشر (مز 10: 14).
إلا أن أي من يراعي مطالب الناموس الأدبي، ويدع المثال الأخلاقي يقوم في سموه، لا يمكنه إلا الإقرار بأن الله لا بد أن يعاقب الشر. حقاً إن الله محبة، ولكن هذا التصريح الجليل لا يوضع في سياقه الصحيح إلا متى فُهمت المحبة في كينونة الله على أساس كونها محبة مقدسة متناغمة تماماً مع العدل الإلهي. فلا يتسع المجال لنعمة الله إلا إذا ترسخ عدلُه أولاً رسوخاً كلياً.
ثم إن تاريخ العالم بكامله يؤدي شهادةً لا تُدحض لعدالة الله هذه. فليس في وسعنا أن نحرز بالتأمل في العالم الإعلان الخاص الذي تم على يد المسيح والذي يُطلعنا على محبة الله. وإذا كان لنا أن نفعل ذلك يفوتنا الإعلان العام بكل فوائده وبركاته. ولكن إذا نحينا جانباً - في أفكارنا - ولو للحظة واحدة فقط الإعلان المبلغ في المسيح، فلا يبقى حينئذ إلا أساس ركيك جداً للاعتقاد بإله محبة. فإن كان تاريخ العالم يعلّمنا شيئاً بوضوح، فإنما يقنعنا بأن لله مخاصمة مع خلائقه. فبين الله والعالم الذي يراه خلافٌ وانفصال وصراع. فإن الله لا يتفق مع الإنسان والإنسان لا يتفق مع الله، بل يمضي كلٌّ منهما في سبيله، ولكلٍّ منهما فكرته وإرادته الخاصتان فيما يتعلق بالأمور. غذ أن أفكار الله ليست أفكارنا، ولا طُرقه طرقنا (إشعياء 55: 8).
ولذلك فإن تاريخ العالم هو أيضاً دينونةٌ للعالم، وليس هو كما قال أحد الشعراء دينونة العالم، لأن هذه سوف تحدث في آخر الأيام، ولا هو دينونةً وحسب، لأن الأرض ملآنة من غنى الله (مز 104: 24). إلا أن تاريخ العالم، رغم ذلك، دينونةٌ له، إذ هو تاريخ ملئ بالدينونات، بالصراع والحرب، والدم والدمع، والمصائب والضيقات. وفي رأس العالم مكتوبةٌ الكلمات التي قالها موسى مرة لما رأى بني اسرائيل يموتون أمام عينيه: قد فنينا بسخطك، بغضبك ارتعبنا (مز 90: 7).
وشهادة التاريخ هذه لعدالة الله تؤيدها حقيقة كون البشرية قد رَنَت دائماً، وما تزال ترنو، إلى فردوسٍ مفقود، إلى سعادة مقيمة، إلى فداء يحررها من جميع الشر الذي يحيق بها. فإن لدى جميع البشر حاجة إلى الفداء وطلباً له. وحقاً إن المرء يستطيع أن يفهم كلمة الفداء بمعنى واسع جداً بحيث يشمل جميع العمل الذي يقوم به البشر على الأرض. فإذ يحاول الإنسان بعمل يديه أن يوفر حاجات حياته، وإذ يمهد لأن يحمي نفسه من سائر القوى المعادية له في الطبيعة وبين البشر، وإذ يسعى كي يُخضع الأرض كلَّها بعلمه وفنه، يكون لهذا كله أيضاً هدف التحرر من الشر والدخول إلى الخير.
على أن الفداء بهذا المفهوم لا يُطبَّق البتة على هذا النوع من الجهد البشري. فمهما جعل مثل هذا الجهد حياة الإنسان شيئاً أهنأ وأغنى، فإن في البشرية شعوراً مقيماً بأن كل تقدُّم وتحضُّر كهذا لا يفي بأمسِّ الحاجات الإنسانية وما كان لينقذ البشر من ضيقهم الأدهى. ذلك أن الفداء مفهومٌ ديني لا يكتسب بُعده الحقيقي إلا في نطاق الدين. فالدين سابقٌ لكلِّ حضارة ومدينة، وهو ما زال إلى يومنا هذا يحتل مكانته الرفيعة إلى جانب العلم والتكنولوجيا. ولا يُمكن أن تحل محله أو تعوض عنه النتائج الباهرة التي يحققها الجهد البشري. فالدين يفي بحاجة فريدة في الإنسان، وهو دائماً ينزع - بعد السقوط - إلى إنقاذه من ورطته الأساسية.
من هنا نعثر على فكرة الفداء في جميع الديانات. صحيح أن الديانات تُصنَّف أحياناً ما بين طبيعية وأخلاقية وافتدائية. عندئذٍ يُميَّز النوع الافتدائي بوصفه نوعاً خاصاً. غير أن مثل هذا التصنيف عرضة للجدل، وذلك بالصواب. فبمعنى عام، تنتمي فكرة الفداء إلى جميع الأديان. إذ أن أديان الشعوب كلَّها تسعى لأن تكون افتدائية. فهنالك اختلاف حول طبيعة الشر الذي يُعنى الفداء بمعالجته، وحول الطريقة التي يمكن بها الحصول عليه، وحول الخير الأسمى الذي ينبغي للناس أن ينشدوه. غير أن جميع الديانات تهدف إلى الاعتاق من الشر، والحصول على الخير الأسمى. فالسؤال الكبير في الدين هو دائماً: ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟ وبالتحديد، فإن ما لا يمكن الحصول عليه بالحضارة والمدنية، بإخضاع الأرض والسيطرة عليها، ذلك بالضبط هو ما يُنشَد في الدين، أعني السعادة الدائمة والسلام الأبدي والبركة التامة. ففي الدين نجد الإنسان دائماً معنياً بالله. وبينما يصوِّر الإنسان الله لنفسه، وهو في وضعه الأثيم، على نحوٍ مغلوط فيه وبخلاف حقيقته تعالى، ويسعى إليه بدافعٍ خطأ وبالطريقة الخطأ وفي المكان الخطأ، فهو إنما يطلب الله حقاً لعلَّه يتلَّمسه فيجده (أعمال 17: 27).
فهذه الحاجة إلى الفداء، وهي قدر البشرية المشترك، وإلى سدها يسعى كثير من الأديان التي تتشبث بها الشعوب، هي في حد ذاتها وبالنسبة للمسيحية بالذات بالغةُ الأهمية إلى أقصى الدرجات. إذ أن هذه الحاجة تُثار في قلوب البشر، وتبقى ماثلة فيها بكل حيويتها، من قِبَل الله بالذات. وهي بينةٌ على أن الله لم يتخل كلياً عن الجنس البشري ويدعه يسلك في سبله الذاتية. إنه أملٌ لا تمكن ملاشاته، وهو يمكّن الناس من الاستمرار في الحياة والعمل على درب رحلتهم الطويلة والمخيفة في هذا العالم. كما أنه عبارة عن ضمانة ونبوءة بأن هنالك في الحقيقة مثل هذا الفداء وأنه يُمنح مجاناً من لدن الله بفضل رحمته الخالصة، وإن كان الناس عبثاً ينشدونه بأنفسهم.
وفي سبيل أن نفهم حقَّ الفهم ونُقدِّر حق التقدير هذا الفداء العظيم الذي أعدته نعمة الله في المسيح، من المفيد أن نتوقف هُنيهةً أمام المجهودات التي طالما بذلها الناس - خارج نطاق الإعلان الخاص - للتحرر من الشر ولامتلاك الخير الأسمى. حالئذٍ يصعقنا الفرق الكبير، وفي الوقت نفسه التشابه العظيم، في الخصائص التي تتميز بها كلُّ هذه المجهودات.
أما الفرق الكبير فيبرز للعيان في كثرة عدد الديان التي وُجِدت عبر العصور، والتي ما تزال توجد، بين البشر. ففي الواقع أن عدد الأديان يفوق عدد الأمم والألسنة. ومثلما يطلع الشوك والزوان من الأرض كذلك تماماً تطلع الديانات الزائفة من الطبيعة البشرية - وما أوفر ما تنبت! فهي كثيرة العدد والاختلاف بحيث لا تكاد تُستقصى، ولا يمكن تصنيفها على نحوٍ وافٍ. وبقدر ما يشغل الدين مركزاً أساسياً، فهو يتخذ شكلاً مختلفاً باختلاف نظرته إلى العلاقة بين كلٍّ من الله والعالم، والطبيعة والروح، والحرية والضرورة، والمصير والذنب، والتاريخ والحضارة. فإن فكرة الفداء، والطريقة التي بها يسعى الناس إلى الحصول عليه، تختلفان تبعاً لاعتبار الشر إيجابياً أو سلبياً، عنصراً دائماً أو لحظةً عابرة في تطور الحضارة طبيعياً أو خُلُقياً، حسياً أو روحياً بطبيعته.
إلا أننا حين نحاول النفاذ إلى جوهر هذه الأديان كلَّها، تبدو لنا بينها جميعاً ملامح شتى من التشابُه والعلاقة المشتركة. ففي المقام الأول، يحاول كل دين أن يستوعب مجموعة كلية من الأفكار عن الله والعالم،والأرواح والبشر، والنفس والجسد، وأصل الأشياء وجوهرها وغايتها. فكل دينٍ يأتي في معيته بتعليم أو عقيدة تنطوي على نظرة معينة في العالم والحياة. وفي المقام الثاني، لا يكتفي أي دين من الأديان بمجرد الإدراك العقلي لهذه الأفكار، بل يحث الناس - بهذه الأفكار وبمعونتها - على اختراق الحُجب للوقوف على عالم الله والأرواح، هذا العالم الفائق للطبيعة، وعلى الاتحاد بالله والأرواح. غير أن الدين ليس البتة مجرد عقيدة أو تعليم نظري. فهو يشمل أيضاً مشاعر العواطف وموقف القلب والتمتع برضوان الله. إنما يعلم الناس في كل زمان ومكان أن الظفر برضوان الله ليس مِلكَ يمينهم بالطبيعة. فمن جهة، يستشعر الناس حقيقة احتياجهم إلى الرضوان الإلهي إذا كان لهم أن يحصلوا على السعادة الأبدية وعلى خلاص أنفسهم؛ ومن جهة أخرى، يشعرون كذلك في قرارة نفوسهم بأنهم يفتقرون إلى رضى الله، وأنهم بسبب خطاياهم فاقدون للشركة مع الله. من هنا يدخل في صُلب كل دين عنصرٌ ثالث، ألا وهو السعي بطريقة أو أخرى للحصول على رضى الله والتمتُّع بالشركة معه ولضمان استمرارها في المستقبل. فكلُّ دينٍ إنما يأتي في كوكبةٍ من الأفكار المتعلقة به، ويحاول أن يرعى مشاعر وإحساسات معينة، ويوصي بسلسلة من الممارسات.
وهذه الممارسات الدينية تنقسم بدورها إلى نوعين. ينتمي إلى الأولى منهما جميع تلك الممارسات التي يمكن إدراجها تحت عنوان العبادة والتي قوامها في الأساس المحافل الدينية والقرابين والصلوات والتسابيح. على أن الدين لا يبقى مقتصراً البتة على هذه الممارسات الدينية المباشرة. فلأنه يشغل مركزاً أساسياً في الحياة، تجده يشبِّع بخواصِّه تلك الحياة بكاملها، محاولاً أن يجعلها منسجمة مع ذاتها. لكل دين يقيم أيضاً مثالاً خُلُقياً رفيعاً ينبغي للمرء بمقتضاه أن يتصرف كما يليق، سواءٌ في حياته الشخصية أم البيتية أم المدنية أم الاجتماعية. إذاً في كل دين أفكار ومشاعر وأفعال تنتمي في جزء منها إلى العبادة، وفي جزء إلى الحياة الخلقية، ويمكن بالتالي أن تُدعى دينية وخُلُقية معاً.
وليس من دينٍ واحد يفتقر إلى أي واحد من هذين العنصرين المكونين. غير أن مقداراً كبيراً من الاختلاف يقدم حول المضمون الذي يشتمل عليه كلٌّ من هذين العنصرين، وحول علاقتهما بعضهما ببعض، وحول الأهمية التي لكلٍّ منهما. ويقول بولس إن جوهر الوثنية عند الأمم يكمن في أن الناس استبدلوا بمجد الله الذي لا يفنى صوراً تشبه الإنسان الفاني والطيور والدواب والزحافات. فالمفاهيم الدينية تتغيّر تبعاً للدرجة التي يبلغُها توحيد الألوهة بالكون والطبيعة والبشر والبهائم، وبتغير المفاهيم الدينية هكذا تتغير العواطف والأفعال الدينية.
وهنا يمكن أن نميز ثلاثة أصناف رئيسية. فعندما تُضفي الألوهة على قوى الطبيعة الغامضة، يُمسخ الدين فيصير مجموعة هائلة من الخرافات والسحر المروِّع. وعندئذ يؤدي العرافون والسحرة دورهم في منح الناس سلطة استبدادية على كائنات إلهية غير منظورة. وإذا اعتُبر الإلهي أشبه بالبشري، يُضفي على الدين طابعٌ أكثر إنسانية، إلا أن رُغم ذلك يتردى بسهولة في مهاوي عبادة الأشكال مع الإغراق في العشائرية - وإلا فإنه يتحول إلى خُلُقية صرف. وعندما يتم تصور الكائن الإلهي وكأنه فكرُ العالم أو نفسُه أو جوهرُه، ينسحب الدين عن مظاهر الأشياء إلى تصوف القلب، وينشد الشركة مع الله عن طريق الزهد (التقشف والتوحد) والانخطاف (الانجذاب الروحي). ففي مختلف الأديان يتجلى واحد أو آخر من هذه الأصناف الثلاثة الرئيسية، ولكن لا يبلغ البتة حد إقصاء سواه. ويتم البحث عن الفداء دائماً في طريق الفهم والمعرفة، والإرادة والعمل، والقلب والعواطف.
ثم إن الفلسفة تتدخل لتدعم ذلك. فالفلسفة أيضاً تنشغل بفكرة الفداء وتسعى إلى نظرة في العالم تفي بمطالب العقل والعاطفة معاً. وقد نشأت الفلسفة من الدين، وهي تأخذ من الدين بصورةٍ دورية عناصر تُدخِلها في نظامها الخاص، حتى لقد أصبحت عند كثيرين نوعاً من الدين. ولكنها، على الرغم من كل ما في ساحتها من تخمين وتفكير، لا تبلغ نقطة تجاوز الأفكار الأساسية في الدين. فلحظة أن تستنتج الفلسفة مبدأً للسلوك في الحياة من نظرتها في الكون، تحاول أن تشق طريقاً إلى الفداء في شِعاب معرفة العقل، وأفعال الإرادة الخُلُقية، واختبارات القلب. ولكن دين البشر وفلسفة المفكرين، من دون الإعلان الخاص، لا يوفران معرفةً صحيحة لله، وبالتالي معرفةً صحيحة للإنسان والعالم، وللخطية والفداء. وفي حين يطلب كلاهما الله لعلهما يتلمسانه فيجداه، فإنهما ما كانا ليوفقا في ذلك.
لذا أضيف الإعلان الخاص إلى الإعلان العام. وفي ذلك الإعلان يبادر الله، من جانبه، إلى الخروج إلى العلن، فيُعلن ذاته للإنسان ويعدُّ لنفسه مسكناً في الإنسان. وبالتالي، فإن بين الأديان المبتدَعة التي يتشبث بها الناس والدين المؤسس على الإعلان الخاص لإسرائيل، وعلى المسيح لفرقاً في المبدأ. ففي الأولى نجد أن الإنسان دائماً هو الذي يحاول أن يجد الله، لكنه يكوّن باستمرار فكرةً زائفة عن الله، ولذلك لا يتسنى له أبداً أن ينظر ببصيرة صائبة إلى طبيعة الخطية وطريقة الفداء. أما في الأخير - أي دين الكتب المقدس - فالله دائماً هو الذي يبحث عن الإنسان، ويكشف للإنسان حالته المتّضعة بالذنب والنجاسة، إلا أنه تعالى يُعلن ذاته كما هو في نعمته ورأفته. فمن أعماق القلب البشري يصعد التحسُّر والتمني: ليت الله يشق السماوات وينزل! وفي المسيحية تنفتح السماوات فعلاً، وينزل الله إلى الأرض. ننظر إلى باقي الأديان فنرى أن الإنسان هو الذي يعمل كل حين، ساعياً إلى الحصول على الفداء من الشر وعلى الشركة مع الله، وذلك بإحراز المعرفة والعمل بكل نوع من الأحكام، أو باعتزال العالم والاعتكاف في مخدع الحياة الداخلة الخاصة. أما في الدين المسيحي، فعمل الإنسان هو لا شيء، بل إن الله ذاته هو مَن يعمل، فيتدخل في التاريخ، ويفتح طريق الفداء في المسيح، وبقوة نعمته يأتي بالإنسان إلى هذا الفداء ويمكّنه من السير في رحابه. فالإعلان الخاص هو الجواب الذي يقدمه الله بالقول والفعل عن الأسئلة التي تثور في القلب البشري بإرشاد منه تعالى.
بعد السقوط مباشرة، جاء الله إلى الإنسان تواً. فقد أخطأ الإنسان ووقع في قبضة الخزي والخوف، وهرب من خالقه واختبأ في وسط شجر الجنة الملتف. إلا أن الله ما نسيه ولا تخلَّى عنه، بل تنازل وبحث عنه وتحدث إليه وهداه من جديد إلى الشركة معه تعالى (تكوين 3: 7 - 15).
وهذا الأمر الذي حدث على هذا النحو بعد السقوط مباشرة، ما برح مستمراً في التاريخ من جيل إلى جيل. ونحن نرى الأمر عينه يحدث مرة تلو مرة. ففي عمل الفداء بكامله، هو الله وحدَه من يُعلن ذاته بوصفه الباحث والداعي، وبوصفه المتكلِّم والعامل. فكامل الفداء يبدأ منه وينتهي إليه. إذ إنه هو الذي وضع شيئاً عوضاً عن هابيل (تكوين 4: 25)، ووجد نوح نعمةً في عينيه (تك 6: 8) وحفظه في وسط دينونة الطوفان (تك 6: 12 وما يلي)، ودعا أبرام وأدخله في عهده (تك 12: 1؛ 17: 1)، واختار شعب إسرائيل ميراثاً له - وذلك بفضل نعمته وحسب. (تثنية 4: 20؛ 7: 6 - 8)، وفي هذا التدبير يجمع لنفسه من بين البشر كافة كنيسة اختارها للحياة الأبدية، ويحفظها جميعاً للميراث الأبدي إلى النهاية (أفسس 1: 10؛ 1 بطرس 1: 5). فكما هي الحال في عمل الخلق والعناية، كذلك أيضاً في عمل الفداء، أي الخلق من جديد، الله هو الألف والياء، الأول والآخر، البداية والنهاية (إشعياء 44: 6؛ رؤيا 22: 13). ولا يُعَقل أن يكون غير هذا، ولا أقل من هذا، لأنه هو الله - فإن منه وبه وله كل الأشياء (رو 11: 36).
أما أن الله هو البادئ في عمل الخلاص، فذلك واضح ليس فقط من حقيقة كون الإعلان الخاص صادراً عنه كلياً، بل هو مُعَلن أيضاً بوضوح في حقيقة كون عمل الفداء بمجمله متعلقاً بمشورة أزلية. وقد سبق لنا أنا أشرنا إلى أن عمل الخلق والعناية الإلهي بكامله نابعٌ من مشورة كهذه .إلا أن كلمة الله تقول لنا - إذا صح التعبير - بلغةٍ أكثر وضوحاً وعباراتٍ أكثر قوةً إن مثل هذه المشيئة الأزلية غير المتحوِّلة تكمن أيضاً في أساس عمل الفداء - الخلق من جديد - بكامله.
ففي مواضع شتى من الكتاب المقدس يرد ذكر مشورة تسبق كل شيء (إشعياء 46: 10)، وتعمل كل شيء (أفسس 1: 11)، ومضمونها عمل الفداء على الأخص (لوقا 7: 30؛ أعمال 20: 27). وهذه المشورة ليست مشورة من فكر الله فقط بل من إرادته المقتدرة أيضاً (أف 1: 5، 11) وهي لا تُنقَض (إش 14: 27؛ 26: 10). ولا تتغير (عبرانيين 6: 17) بل تثبت إلى الأبد (مزمور 33: 11؛ أمثال 19: 21). هذا، ويستعمل الكتاب أسماءً أخرى تُلقي على الأمر مزيداً من الضوء. ففضلاً عن المشورة، نقرأ عن المسرة الصالحة التي أعلنها الله للناس في المسيح (لوقا 2: 14) والتي تبتهج بأن يأتي الناس ويُقبلوا بصفة أولاد الله (أف 1: 5، 9). ونقرأ عن قصدٍ يتعلق بعمل الاختيار (رومية 9: 11؛ أف 1: 9). وقد قُصِد في المسيح يسوع (أف 3: 11)، وهو يتحقق في دعوة الذين يحبون الله (رو 8: 28). ثم نقرأ أيضاً عن اختيارٍ، مقرون بعلمٍ سابق، صادرٍ عن النعمة (رو 11: 5) ومتركز في المسيح (أف 1: 4) وغرضُه أشخاص مخصوصون (رو8: 29). وغايته خلاصُ هؤلاء (أف 1: 4). أخيراً، نقرأ كذلك عن تعيين أو تعيين سابق يتخذ وسيلة إعلان حكمة الله (1 كورنثوس 2: 7) ويبلغ ذروته في تبني الله أولاداً لنفسه بيسوع المسيح، وفي الحياة الأبدية.[69]
حتى إذا جمعنا معاً هذه المعطيات الكتابية كلَّها، يتوضح لنا أن مضمون مشورة الله ينطوي على ثلاثة أمور.
أما الأول فهو الاختيار، ويُعنى به قصد الله بالنعمة. ذاك الذي بموجبه عيّن أولئك الذين سبق فعرفهم، في المحبة ليكونوا مشابهين صورة المسيح (رومية 8: 29). ومن الممكن أيضاً التكلم عن اختيار شعوب أو أمم، لأنه في أزمنة العهد القديم اختيرت إسرائيل وحدها ميراثاً للرب؛ وفي تدبير العهد الجديد يُعَّرف بالإنجيل شعبٌ أسبق من غيره بكثير. على أن قبول الشعوب هذا لا يشكل المدى الكامل للاختيار كما يصوره الكتاب المقدس. إذ إنه كما يتناول الأمم داخل البشرية جمعاء، يتناول كذلك أفراداً داخل الأمم. وهكذا يُرفض عيسو ويُقبَل يعقوب (رومية 9: 13). ومن ثم فالذين سبق أن عرفهم الله فأولئك أيضاً دعاهم في الزمان وبرّضرهم ومجّدهم (رو 8: 30).
ولكن الاختيار، وإن كان غرضه أشخاصٌ محددون، إلا أن أساسه ليس أولئك الأشخاص. بل أساسه الوحيد هو نعمة الله. فالرب يرحم من يرحم، ويترأف على من يترأف، فإذاً ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل لله الذي يرحم (رو 9: 15 و 16). حتى الإيمان لا نفع له هنا، إذ لا يُعقَل أن يكون الإيمان شرطاً للاختيار أو أساساً له، بقدر ما هو بالأحرى نتيجةٌ أو ثمرٌ له. ثم إن ذلك الإيمان هو عطية من الله (أف 2: 8). وبالتحديد، فإن المؤمنين مختارون في المسيح من قبل تأسيس العالم، لكي يتسنى لهم في الزمان أن يبلغوا الإيمان ويكونوا به قديسين وبلا لوم أمام وجه الله (أف 1: 4). وعليه، فإن الذين يؤمنون دائماً هم المعيّنون للحياة الأبدية من قِبَل الله (أعمال 13: 48). فإن مشيئة الله من نحونا هي الأساس النهائي لكل ما هو كائن ولكلِّ ما يحدث، وكذلك مسرته الصالحة أيضاً هي العلَّةُ الأكثر أساسية التي يُمكن أن يُعزي إليها التمييز الحاصل في مصير الناس الأبدي.
أما الأمر الثاني، فهو أن مشورة الفداء تتضمن إتمام ذلك الخلاص الكامل الذي يريد الله أن يهبه لمختاريه. وفي مشروع الخلاص لم يُعَّين فقط الأشخاص العتيدون أن يرثوا الخلاص الأبدي، بل أشير أيضاً إلى الوسيط الذي سيُعدُّ لهم هذا الخلاص. إلى هذا المدى يُمكن أن يُدعى المسيح غرض اختيار الله. وبالطبع، يجوز أن يُدعى هكذا ليس بمعنى أن، شأنُه شأن أعضاء كنيسته، اختير لكي يُنقذ من حالة خطية وشقاء ويُنقل إلى موقع خلاص وفداء. حاشا، بل إنما يمكن أن يدعى هكذا بهذا المعنى الآخر: أن ذاك كان وسط الخلق سيكون أيضاً وسيط إعادة الخلق، ويُتِمُّ عمل الفداء كلياً بآلامه وموته. لهذا السبب يُدعى عبد الرب، أو فتاه المختار (إشعياء 42 وما يليه؛ 12: 18). وبوصفه وسيطاً، هو خاضعٌ للآب ومُطيع له.[70] إذ كان له وصيةٌ وعملٌ يُتمه حددهما له الآب.[71] ومكافأة له على إتمام العمل، تقبّل مجده الخاص به، وحصّل الخلاص لشعبه، وتقلد أسمى سلطان على الإطلاق في السماء وعلى الأرض.[72]
إذاً، لا تجري مشورة الفداء بغير الابن، كما لا تجري بغيره مشورة الخلق والعناية. فإننا نقرأ بالحرف الواحد أن قصد الدهور قد صُنع في المسيح يسوع (أف 3: 11)، وأن الذين يبلغون الإيمان في الزمان قد اختيروا في المسيح قبل تأسيس العالم (أف 1: 4). وهذا لا يعني القول إن المسيح هو علة الاختيار أو أساسه، ما دام هو في ذاته غرض اختيار الآب بالمعنى المحدد أعلاه. ولذلك لا يمكن أن يؤدي دور أساس الخلاص وعلته كما لا يمكن أن يؤدي دور أساس الخلق والعناية وعلتهما. ولكن مثلما أن الخلق والعناية، من حيث كونهما مشورةً وحقيقة واقعة معاً، يصدران عن الآب من خلال الابن وهكذا يبرزان إلى الوجود، فكذلك تماماً خطة الخلاص هي أيضاً مصنوعة من قِبَل الآب في الابن ومعه. فالابن، مع الآب، يسمي نفسه وسيط الفداء ورأس كنيسته. ومن هذا يمكننا أن نستنتج أن الاختيار، وإن كان له غرضاً أشخاصٌ محددون، يستبعد كلياً أي احتمال للصدفة أو الانتقاء الكيفي. فإن قصد ذلك الاختيار ليس هو انتقاء أناسٍ قليلين كيفما اتفق كي يؤتى بهم إلى الخلاص وكي يقفوا جنباً إلى جنبٍ بعيدين بعضُهم عن بعض كأفراد منفردين. ذلك أن الله لا يهدف في اختياره إلى اقل من وضع المسيح الوسيط على رأس كنيسته وتكوين الكنيسة جسداً للمسيح.[73] فبمعنى عضوي، هي البشرية تخلُص في المسيح، وفي السماء الجديدة والأرض الجديدة تُصلح حال العالم إصلاحاً شاملاً.
فالأمر الثالث الذي تتضمنه مشورة الله هو إذاً وضع مشروع الخلاص الذي أتمه المسيح وتحقيق هذا المشروع. ومع أن خطة الخلاص رُسِمَت من قِبَل الآب في الابن، فهي قد رُسِمت أيضاً بالشركة مع الروح القدس. فيقيناً، كما أن الخلق والعناية يبرزان إلى الوجود من لدن الآب بواسطة الابن وفي الروح القدس، كذلك يحصل الفداء، أو إعادة الخلق، فقط من خلال نشاط الروح القدس العملي. وقد مهد المسيح للحلول الروح القدس ووعد به وأرسله (يوحنا 16: 7؛ أعمال 2: 4، 17)، وهو الذي يشهد للمسيح ويأخذ كل شيءٍ من المسيح (يوحنا 15: 26؛ 16: 13 و 14)، والذي يُحِدث الآن الولادة الجديدة في الكنيسة (يو 3: 3) والإيمان (1 كورنثوس 12: 3) والتبني (رو 8: 15). والتجديد (تيطس 3: 5) والختم ليوم الفداء (أف 1: 13؛ 4: 30). وهذا كلُّه يستطيع الروح القدس أن يصنعه ويوجده لأنه، مع الآب والابن، الإله الواحد الحقيقي الحي والمالك سرمدياً. فإن محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس، مرسَّخةٌ جيداً لشعب الرب في مشورة الله السرمدية العديمة التغيُّر.
وبالتالي، فإن مشورة الرب غنية بالتعزية على نحوٍ فائق الوصف. إلا أنها غالباً ما تُصوَّر على خلاف هذا، أي باعثةً على اليأس ومثبطة للهمة. وربَّ معترضٍ على هذه المشورة يقول إنه إذا كان كل شيء محتوماً منذ الأزل فلا يكون الإنسان إلا لعبةً بيد المزاجية الإلهية. فأي نفع للإنسان في إجهاد نفسه وعيش حياة فاضلة؟ فإذا كان الإنسان مرذولاً، أو مرفوضاً، فإنه يهلك على كل حال. ثم تمضي هذه المحاجَّة فتطرح السؤال: ماذا يضير الإنسان إذا عاش في الخطية وانغمس في أحط أنواع الفجور والرذيلة؟ وإذا كان الإنسان مختاراً، فإنه يخلص على كل حال! ومثل هذه المشورة الإلهية لا تدع مكاناً، مهما كان، لأية حرية ولا لأية مسؤولية من جانب الإنسان. فله إذ ذاك أن يعيش وفقاً لما تمليه عليه أهواء قلبه، وله أن يُخطئ لكي تتوافر النعمةُ أكثر!
أما أن الاعتراف بمشورة الله غالباً ما أُسيء فهمُه على هذا النحو، فأمرٌ واقع بالتأكيد، ولا تعود إساءة الفهم هكذا، في الممارسة الفعلية، إلى أيام كالفن أو أيام أوغسطينوس وحسب، بل إنها حدثت أيضاً في زمن المسيح والرسل. إذ إننا نقرأ عن الفريسيين والناموسيين أنهم رفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم والتي تبدَّت لهم في معمودية يوحنا، بحيث إن ما كان يجب أن يكون عبارةً عن وسيلةٍ للرجوع إلى الله موجودةً في متناول أيديهم، قد صار أداة للحكم عليهم بالهلاك (لوقا 7: 30). ويقول الرسول بولس إن هذا افتراء أن يُتَّهم بإباحته فعل الشر لكي يأتي الخير (رومية 3: 8)، ويرد بالحجة موبخاً كل من يجرؤ على انتقاد الله (رو 9: 19 و 20). ولبولس كل الحق في أن يفعل هذا. فإن مشورة الله لا تقتصر على تحديد النتائج المحتومة بل تسيطر أيضاً على الوسائل. وهي لا تتضمن العواقب فقط، بل الأسباب أيضاً. كما أنها توطِّد علاقات كتلك التي تُرى موجودةً في الحياة بالذات. ولذلك، فإن مشورة الله لا تُبطل طبيعة الإنسان العقلية والخُلْقية، بل بالأحرى توجِدها وتضمنها، دائماً إلى الحد الذي يُتيح لنا التاريخ معرفته.
إن إساءة تطبيق هذا الاعتراف بمشورة الله هي أمرٌ فائق الخطورة. فهذه المشورة مُعلَنة ومبنية في الكتاب المقدس لا لكي ننكر حقيقتها ونقسي أنفسنا تجاهها، بل - على العكس - لكي يُتاح لنا، إذ نلمس مذنوبيتنا وإفلاسنا، أن نتكل على هذه المشورة الإلهية بإيمانٍ طفولي، وأن نضع فيها كامل ثقتنا القلبية في كل ضيقٍ وحاجة. فلو كان الخلاص يتعلق بالإنسان، إلى درجةٍ كبرى أو صغرى، وبإيمانه وأعماله الصالحة، لفاته الخلاص إذ ذاك إلى الأبد. غير أن مشورة الله تعلمنا أن الفداء، من أوله إلى آخره هو من عمل الله، بل إنه عمل الله على نحو فريد كلياً. فالفداء شانه شأن الخلق والعناية، إنما هو عمل الله وحده دون سواه. لأن من عرف فكر الرب أو صار له مشيراً، أو من سبق فأعطاه فيكافأ؟ (رو 11: 34 و35). فإن الآب والابن والروح القدس فكروا معاً في عمل الفداء بكامله وصمموا عليه، وهم أيضاً من ينفِّذه ويكمله. أما الإنسان فلا يعمل هنا شيئاً ما. إذ كل الأشياء هي من الله وبه وله. ومن هنا تستطيع نفوسُنا أن تستريح في رحاب الفداء بيقينية لا يكدرها شيء. فإصلاح حال البشرية وخلاصُها في الكنيسة إنما هما مشيئة الله الأزلية المستقلة غير المتحولة.
وتزداد قناعتنا بهذه التعزية التي ينطوي عليها الاختيار حينما نذكر أن مشورة الله ليست فقط عملاً من جانب فكره بل هي أيضاً عملٌ من جانب إرادته. وهي لا تقتصر على كونها فكرةً تقع في نطاق الأزل وحسب، بل إنها قوة مقتدرة تُحقق ذاتها في الزمن. هكذا هي حال سائر سجايا الله وكمالاته. فهب ليست صفات سلبية ساكنة بل قوىً قديرة مفعمة حياة وحركة. فكلُّ سجية من سجاياه داخلة في صُلب كينونته. فعندما يُدعى الله البار والقدوس، يتضمن ذلك أن يُعلِن ذاته أيضاً بهاتين الصفتين، وأنه يمارس عدالته على هذا العالم وعلى ضمائر البشر ويُعنى بالحفاظ عليها هنا وهناك. وعندما يُدعى محبةً، لا يكون مدلول هذا فقط أنه ينظر إلينا في المسيح بعين الرضى، بل أيضاً أنه يُعلن هذه المحبة ويسكبها في قلوبنا بالروح القدس، وحين يدعو ذاته أباً لنا، يتضمن ذلك أيضاً أنه يهدينا إلى ذاته، ويتبنانا بصفة أولاد له، ويشهد بالروح القدس مع أرواحنا أننا أولاده. وحينما يُعلن ذاته بوصفه المُنعِم والرحيم، لا يقول ذلك مجرد قول، بل يبرهن عليه أيضاً بالفعل إذ يغفر خطايانا ويعزينا في كل ضيقاتنا، وكذلك أيضاً حين يكلمنا الكتاب عن مشورة الله، فإنما يُعلن لنا بذلك أن الله نفسه سيُنفِّذ تلك المشورة ويحققها إلى التمام. ومشورة الفداء بالذات هي عملٌ إلهيٌّ منذ الأزل، إلا أنها _ في حد ذاتها - هي أيضاً مبدأُ عمل الفداء في الزمن، وقوةُ هذا العمل المحرِّكة، وضمانتهُ. وعليه، فمهما جرى للعالم وللبشر ولنا نحن، فإن مشورة الله الكلية الحكمة تقوم إلى الأبد، وإلى الأبد تظلُّ فاعلة. فما من شيءٍ البتة يقوى على تحويل قصد الله السامي عن خط سيره؛ فهو يبقى كما هو من جيل إلى جيل. إذاً، لا داعي إطلاقاً لتثبيط الهمة أو لليأس. فكل شيء سيكون بكلِّ يقين كما حتمَه الله في حكمته ومحبته؛ وإرادته القديرة والمُنعِمة هي الضمان لفداء البشر وإنقاذ العالم. لذلك تبقى قلوبُنا في سلامٍ بالرب إبان الضيقات الشديدة.
ولذلك فما إن أخطأ الإنسان حتى ابتدأت مشورة الفداء تعمل. وإذا الله، بمبادرةٍ شخصية منه فحسب، يتنازل إلى الإنسان ويبحث عنه ويدعوه كي يرجع إليه تعالى. صحيح إن فحصاً أو استجواباً جرى حينذاك، ومن ثم أُعلِن الجُرم وتُليَت العقوبة. إلا أن القصاص الذي أُعلِن على الحية والمرأة والرج، هو في الوقت عينه بركةٌ ووسيلة حفظ. ذلك أن الوعد الرئيسي (تك 3: 14 و15)، رغم كل شيء، لم يقتصر على حط الحية وإصدار الدينونة على قوة الشر التي كانت مطيَّةً لها. بل لقد أُعلِن أيضاً أنه مذ ذاك تكون عداوة بين نسل الحية ونسل المرأة وأن الله نفسه هو مُحدِث هذه العداوة وموطِّدها. أما ذروة هذا النزاع والصراع فلسوف تكون أن نسل الحية يسحق فعلاً عقب نسل المرأة، غير أن نسل المرأة يسحق رأس نسل الحية.
في هذا الوعد الرئيسي المشار إليه لا يُضمَّن ما هو أقلُّ من إعلان عهد النعمة وتأسيسه. حقاً إن كلمة العهد لا تُذكر في هذا السياق: فهي كلمةٌ يمكن استخدامُها فيما بعد فقط، وذلك فيما يتعلق بنوحٍ وإبراهيم وغيرهما، حينما بات الناس يدركون ضرورة المواثيق والعهود، إبان مختلف صراعاتهم مع الطبيعة والحيوانات، باختبار الحياة عملياً. إلا أننا، من حيث المبدأ والجوهر، نجد جميع العناصر المكوِّنة لعهد النعمة حاضرة في الوعد الرئيسي. ذلك أن الإنسان بتعديه أقلع عن إطاعة الله وهجر الشركة معه والتمس صداقة الشيطان وتعاهد معه. وهوذا الله الآن يتداخل بنعمته لينقض علاقة العهد هذه بين البشر والشيطان وليضع عداوة بدلاً من الصداقة التي حصلت بينهما. فبعملٍ مقتدرٍ من قِبَل مشيئته الكريمة، يستعيد تعالى إلى صفه نسل المرأة بعدما أسلمته المرأة للشيطان. ومن ثم يضيف إلى هذا، الوعد بأن نسل المرأة، رغم سائر أنواع المقاومة والطغيان، سيُحرِز يوماً النصر النهائي على نسل الحية. وليس في هذا أيُّ شكٍ أو شرط. إذ إن الله نفسه يأتي إلى الإنسان، وهو بذاته يضع العداوة، ويشن الحرب، ويعد بالنصر. وليس للإنسان في ذلك أيُّ دورٍ ما خلا الإصغاء إليه والقبول به بإيمانٍ طفولي. فالوعد والإيمان هما مضمون عهد النعمة الذي وُضِع آنذاك للإنسان، مما يمهد السبيل أمام هذا المخلوق الساقط والضال للرجوع إلى بيت الآب، ويفتح سبيل القدوم إلى الخلاص البدي.
فهناك فرق كبير بين الطريقة التي كان سيشارك بها الإنسان في الحياة الأبدية قبل السقوط وبين الطريقة الوحيدة التي يستطيع الحصول بها على تلك الحياة بعد سقوطه. فإذ ذاك كانت تصحُّ القاعدة: اعمل هذه فتحيا. إذ كان على الإنسان، عن طريق الطاعة الكاملة لوصية الله، أن يتقدم ليرث الحياة الأبدية. وقد كانت هذه، في حد ذاتها، طريقاً صالحة، لو ظل الإنسان ملتزماً السير لأفضت به حتماً إلى الخلاص الأبدي. أما الله، فلم ينقض هذه القاعدة من جانبه، بل إنه مازال يلتزمها. فلو كان إنسانٌ واحدٌ يستطيع حفظ ناموس الله بالتمام والكمال لكوفئ بالحياة الأبدية فعلاً.[74]
غير أن الإنسان جعل طريق الخلاص هذه مستحيلةً عليه. إذ ليس في وسعه بعد أن يحفظ الناموس، لأنه نقض الشركة مع الله وما عاد يحب ناموس الله بل صار يكرهه (رومية 8: 7). وها هو عهد النعمة الآن يفتح أماه طريقاً آخر وأأمن. بموجب هذا الطريق لم يعد واجباً على الإنسان أن يعمل ليرِث الحياة، بل بالأحرى يحصل على الحياة الأبدية للحال في أول الطريق إذ يقبلها بإيمانٍ طفولي، وانطلاقاً من ذلك الإيمان يمضي فيُنتج أعمالاً صالحة. هنا ينعكس الترتيب. إذ قبل السقوط كانت القاعدة: إلى الحياة الأبدية من خلال الأعمال. أما الآن، بعد السقوط، وفي عهد النعمة، فالحياة الأبدية تأتي أولاً، ومن تلك الحياة تطلع الأعمال بالتالي كثمارٍ للإيمان. فمن قبلُ كان على الإنسان أن يرتقي لبلوغ المستوى الذي وضعه الله فيحصل على ملء الشركة معه. والآن، بعد السقوط، يتنازل الله إلى الإنسان ويلتمس له مسكناً في قلب الإنسان. ومن قبلُ كانت أيام العمل تسبق سبت الراحة، أما الآن، فالسبتُ (المعنويُّ) يستهلُّ الأسبوع ويُقدِّس كلَّ أيامه.
أما وقد بات موجوداً الآن طريقٌ يُفضي بالإنسان الساقط إلى القدس السماوي، طريقٌ مكرَّسٌ حديثاً وحي، طريقٌ مضمون ومأمون ويقينيٌّ ثوابُه (عبرانيين 10: 20)، يعود ذلك كلُّه إلى فضل نعمة الله ومشورة الفداء. فإن مشورة الفداء، المرسومة أزلاً، وعهد النعمة الذي يُعرَّف الإنسانُ به بعد السقوط مباشرة، والذي أقيم آنذاك، ليتعلقان بعضُهما ببعض أوثق علاقة. إنهما مترابطان عضوياً بحيث إن أحدهما يقوم أو يسقط بقيام الآخر أوسقوطه. صحيحٌ إن كثيرين يعتقدون بغير هذا الاعتقاد. فهم يقفون على شرفة عهد النعمة من حيث ينظرون إلى سائر الأمور، ومن موقعهم ذاك ينكرون مشورة الفداء ويناقضونها؛ وباسم نقاوة الإنجيل يرفضون الاعتراف بالاختيار. وبذلك يقوّضون فعلاً عهد النعمة ويحوِّلون الإنجيل مرةً أخرى إلى ناموسٍ جديد.
وكيف دار الأمر، فعندما يُفصل عهد النعمة عن الاختيار، لا يبقى عهدَ نعمة بل يصير من جديد عهدَ أعمال. فالاختيار يتضمن أن الله يمنح الإنسان، مجاناً وبدافع من النعمة، الخلاص هبةً من نعمة الله مجانية، بل كان يتعلق بمجهود البشر بطريقة ما، فإن عهد النعمة يتحول إذ ذاك إلى عهد أعمال. حينئذٍ يكون على الإنسان أن يفي بشرطٍ معين لكي يرث الحياة الأبدية. ففي هذا الأمر، تقف النعمة والأعمال في قطبين متعاكسين بحيث تنفي إحداهما الأخرى. فما دام الخلاص هو بالنعمة فهو ليس بعدُ بالأعمال، وإلا فليست النعمة نعمةً بعد. ولو كان الخلاص بالأعمال، لما كان بالنعمة وإلا فالأعمال لا تكون أعمالاً (رو 11: 6). فالدين المسيحي له هذه المزية الفريدة، أعني أنه دينُ الفداء، بالنعمة الخالصة، ولذا فهو دينُ نقيٌّ. وهو إنما يتمُّ تمييزُه على هذا النحو، وإبقاؤه بهذه الصفة، فقط إذا كان عطية مجانية صادرة عن مشورة الله وحدها. وما دام الاختيار وعهد النعمة لا يُعقَل البتة أن يشكلا نقيضين متناقضين، فإن الاختيار هو أساس عهد النعمة وضمانُه وجوهره ولُبه. ثم إن التمسُّك بهذه العلاقة الوثيقة هو أمرٌ بالغ الأهمية بالضرورة الحتمية، لأن أدنى إضعافٍ لهذه العلاقة لا يحرم المرء فقط سواء البصيرة بالنسبة إلى تحقيق الخلاص وتطبيقه، بل يسلب المؤمنين أيضاً تعزيتهم الوحيدة واليقينية في ممارستهم لأمور حياتهم الروحية.
ويترامى على هذه العلاقة ضوءٌ أسطع عندما ننظر إلى عهد النعمة لا في سياق الاختيار وحسب بل في سياق كامل مشورة الفداء كلِّها. فليس الاختيار هو كامل مشورة الفداء؛ بل هو جزءٌ منها، وإن كان الجزء الأول والرئيسي. إذ تتضمن تلك المشورة أيضاً، على نحوٍ راسخٍ لا يحول، الطريقة التي ينبغي أن يتحقق بها الاختيار فعلاً، وبعبارة موجزة: إتمام الفداء بكامله وتطبيقه كلياً. فنحن نعلم أن الاختيار قد قُصد في المسيح، وأن مشورة الله ليست فقط من عمل الآب بل هي أيضاً من عمل الابن والروح القدس. إنه عملٌ إلهيٌّ يتولاه الثالوث الأقدس. بكلامٍ آخر، إن مشورة الفداء هي في حد ذاتها عهدٌ يتولى بموجبه - إذا جاز التعبير - كلٌّ من أقانيم اللاهوت عمله الخاص ويُنجز مهمته المتولاة. فليس عهد النعمة المُقام في الزمن والموصول من جيلٍ إلى جيل إلا تنفيذاً وصورةً طبق الأصل للعهد الراسخ في مشورة الله الأزلية. وكما في مشورة الله، فكذلك في التاريخ، يظهر كلٌّ من الأقانيم. فالآب هو مصدر خلاصنا، والابن هو مكمِّله، والروح القدس هو من يُحققه. ومن هنا فإن أيَّ شخصٍ يُجرد الزمن من أساسه الأزلي، وذلك بحلِّ التاريخ من مرساته في مشيئة الله الكريمة المقتدرة، إنما يُسيء مباشرةً، وبالمقدار الواحد عينه، إلى عمل كلٍّ من الآب والابن والروح القدس.
ولئن كان الزمن لا يمكن أن يستغنى عن الأزل، وكان التاريخ قائماًَ في أوثق علاقةٍ بفكر الله، فليس هذان الأمران بعضهما مثل بعض من كل ناحية. فإنَّ بينهما ذلك الفرق الكبير القائم في أن فكرة الله تُعلَن في تاريخ الزمن وتغدو حقيقة واقعة. ومع أنه لا يمكن الفصل بتاتاً بين مشورة الفداء وعهد النعمة، ولا يجوز ذلك الفصل، فإنهما يختلفان بعضُهما عن بعض في هذه الناحية بحيث إن الأخير هو تحقيقٌ للأول. فليست خطة الخلاص، بحد ذاتها، كافية. بل إنها تحتاج إلى تنفيذ. ومن حيث هي تصميم، فهي تحمل طيَّ ذاتها تنفيذَها وتحقيقها، وهي تُجري هذين بذاتها. حتى إنها تفقد مزيَّة كونها مشورةً وتصميماً إن كانت لا تُحرز التحقيق والظهور في الزمن. وهكذا كان ذلك. فبعد السقوط مباشرة أُعلِن عهدُ النعمة للإنسان وقُطِع له، ومن ثم سار في مجراه من جيل إلى جيل عبر التاريخ. فالشيء هو شيء واحد في التصميم، ينكشف في عرض الزمن ويتطور في مجرى العصور.
وعندما نصرف انتباهنا إلى هذا التطور التاريخي لعهد النعمة، نتبين فيه ثلاث خصائص جلية.
أما أولى هذه الخصائص، فهي أن عهد النعمة هو واحدٌ في جوهره في كل زمان ومكان، غير أنه يظهر دائماً بأشكالٍ جديدة ويجتاز تدابير مختلق. فهو يبقى واحداً من حيث جوهره ومادته، سواءٌ قبلَ تدبير الناموس، أم في أثنائه، أم بعده. إذ إنه دائماً عهدُ نعمة. وهو يُدعى هكذا لأنه صادر عن نعمة الله، ولو النعمة مضموناً، وتمجيد نعمة الله غرضاً نهائياً.
وتماماً كما كان عند إعلان هذا العهد أول مرة، إذ تم تثبيتُ العداوة وإطلاقُ شرارة الكفاح والوعدُ بالنصر، فكذلك الحال دائماً إذ يبقى الله هو الأول والآخِر في جميع تدابير عهد النعمة، سواءٌ مع نوح أم إبراهيم أم إسرائيل أم الكنيسة في العهد الجديد. فإن مضمون هذا العهد كان، ويبقى دائماً، هو الوعد والعطية والنعمة. وفي مجرى الزمن يتكشَّف بأكثر جلاء ما هو متضمَّن في هذا العهد، ويتوضح للعيان مقدارُ غنى مضمونه. إلا أن هذا كلَّه كان قد انطوى عليه مبدئياً الوعدُ الرئيسي. فإن الوعد الواحد والشامل والعظيم في عهد النعمة هو هذا: أنا أكون إلهك وإله شعبك. وعدٌ شامل يتضمَّن كلَّ شيء - إنجاز عمل الخلاص وتحقيقه بالكامل؛ المسيح والبركات المرتبطة به؛ الروح القدس والمواهب التي يُعطيها. وإن خطاً مستقيماً واحداً يجري من الوعد الرئيسي في (تكوين 3: 15) إلى البركة الرسولية في (2 كورنثوس 13: 13). ففي محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس يستقرُّ كاملُ الخلاص للإنسان الخاطي.
ولذلك ينبغي لنا أن نلاحظ على وجه الخصوص أن هذا الوعد ليس مشروطاً بل هو مؤكّد ويقينيٌّ إلى ما لا نهاية. فإن الله لا يقول إنه سيكون إلهنا إذا فعلنا كذا وكذا. بل يقول إنه هو سيضع عداوةً، وهو سيكون إلهنا، وهو سيمنحنا كل شيء في المسيح. ففي وسع عهد النعمة أن يبقى هو إياه على مر العصور لأنه يتعلَّق كلياً بالله، ولأن الله هو الأمين وغير المتغير دائماً أبداً. أما عهد الأعمال الذي أُقِرَّ مع الإنسان قبل السقوط فكان عرضة للانتهاك، وقد تم انتهاكه فعلاً، لأنه تعلَّق بالإنسان المتغير. غير أن عهد النعمة ثابت وموطد في رحمة الله وحدها. فلقد يصير الناس غير أمناء، إلا أن الله لا ينسى وعده البتة. إذ لا يُمكن، ولا يُعقل، أن ينقض عهده، ما دام قد التزم الوفاء به متعهداً بقسَم ثمين مقدِّم فضلاً، بحيث إن اسمه وكرامته وسمعته تتوقف كلُّها على ذلك. فلأجل نفسه هو يمحو الذنوب ولا يعود يذكر الخطايا.[75] حتى إن الجبال تزول والآكام تتزعزع، أما إحسانه فلا يزول عنا وعهد سلامه لا يتزعزع - قال الربُّ راحمُنا (إشعياء 54: 10).
ومهما كان عهد النعمة غير متغير في جوهره، فإنه يتنوع في أشكاله ويتخذ ملامح شتى في مختلف التدابير. وفيما حدث في الفترة السابقة للطوفان تمييزٌ بين نسل شيث ونسل قايين، ظل الوعد رُغم ذلك غير مقصورٍ على شخصٍ واحد أو نسلٍ واحد، إذ امتد إلى جميع البشر. فلم يكن قد حصل بعدُ تمييزٌ رسمي؛ وكان الإعلان العام والإعلان الخاص ما يزالان يجريان في مجرى واحد. ولكن لما بات الوعد في تلك الحال مهدداً بالضياع، صار الطوفان ضرورياً. وأخذ نوحٌ الوعد معه إلى داخل الفلك. وآنذاك أيضاً استمر الوعد زمناً طويلاً بصفته العمومية. إلا أنه عندما نشأ بعد الطوفان خطرٌ جديد على سيرورة عهد النعمة، عندئذٍ لم يستأصل الله البشر مرةً أُخرى، بل ترك الناس يمضون في سبُلهم، وميز إبراهيم ليكون حامل الوعد. ومن ثم وجد عهد النعمة تحقيقه في عائلات الآباء. وقد مُيِّزت هذه العائلات عن سائر الأمم بعلامة الختان كختمٍ للبّر، وبالإيمان كعلامةٍ على ختان القلب.
ثم إن عهد النعمة وُطِّد في سيناء مع إسرائيل بوصفه نسل إبراهيم. ولكن بما أن إسرائيل كان أمَّةً أو شعباً وكان واجباً عليه أن يحيا أمام وجه الرب كأُمة مقدسة، فقد أُضفي آنذاك على عهد النعمة شكلٌ قومي وصبغةٌ قومية. فإذا عهد النعمة الآن يستعمل الناموس، لا الناموس الأدبي وحده، بل الناموس الطقسي والمدني بكل أحكامه أيضاً، لكي يقتاد به الناس إلى المسيح وكأنه مؤدِّب أو معلِّم. وقد كان الوعد أسبق من الناموس، ولم يأتِ الناموس ليحلَّ محلّ الوعد، بل أُضيف إلى الوعد، وذلك بالتحديد لكي يدفعه قُدماً في خط تطوره، ويُعِدَّه لإتمامه في ملء الزمان. فإن الوعد يلقي إتمامه في المسيح، حيث يحصل الظلُّ على حقيقته، والحرفُ على روحه، والعبودية على حريتها. وهكذا يتحرَّر الوعد من كل حدودٍ وقيودٍ خارجية، ويعود لينتشر، كما فبالبداية، على البشرية كلِّها.
على أن عهد النعمة، بصرف النظر عن الأشكال التي يتجلى بها، يبقي له دائماً مضمونُه الجوهريُّ الواحد بعينه. فهنا يوجد دائماً الإنجيل نفسه (رو 1: 2؛ غلاطية 3: 8)، والمسيح نفسه (يوحنا 14: 6؛ أعمال 4: 12)، والإيمان نفسه (أعمال 15: 11؛ رو 4: 11)، كما تبلَّغُ دائماً البركاتُ عينُها من غفرانٍ وحياة أبدية وغيرهما (أعمال 10: 43؛ رو 4: 3)، فبينما يتفاوت النور الذي يسافر المؤمنون على هَدْيه، يبقى طريقُهم هو إياه في كل حين.
وأما المزية الثانية أو ثانية الخصائص الجلية التي تميز عهد النعمة فهي أن لهذا العهد، في جميع التدابير الإلهية، طبيعةً عضوية مميزة.
إن الاختيار يركز الاهتمام على أشخاصٍ محددين، على أفرادٍ سبق الله فعرفهم ومن ثم دعاهم في الزمن وبرّرهم ومجدَّهم، غير أنه لا يُبين بعد العلاقة بين هؤلاء الأشخاص. ولكن الكتاب المقدس يُعلِمنا أيضاً أن الاختيار تم في المسيح (أفسس 1: 14؛ 13: 11)، وبالتالي طفق يعمل على نحوٍ يستطيع معه المسيح أن يظهر بوصفه رأس كنيسته، وتستطيع الكنيسة أن تكوِّن جسد المسيح. وعليه، فإن المختارين لا يقفون بعيدين بعضُهم عن بعض بلا أيَّ رابط، بل هم واحدٌ في المسيح. فكما كان شعب إسرائيل في أيام العهد القديم شعباً لله مقدساً، فكذلك تماماً كنيسة العهد الجديد هي جنسٌ مختار، كهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء (1 بطرس 2: 9). ثم إن المسيح هو العريس، والكنيسة هي عروسه؛ هو الكرمة، والمؤمنون هم الأغصان؛ هو حجر الزاوية، وهم الحجارة الحية في بناء الله؛ هو الملك؛ وهم رعاياه. والوحدة بين المسيح وكنيسته متينة وحميمة إلى حدٍّ جعل بولس يشملهما معاً باسم المسيح: لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة، وكل أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضاً (1 كورنثوس 12: 12). فالمؤمنون كلهم تجمعهم شركةٌ واحدة، وهم يجتهدون أن يحفظوا وحدانية الروح برباط السلام. وهنالك جسدٌ واحد وروح واحد، كما دُعُوا أيضاً في رجاء دعوتهم الواحد؛ ولهم ربٌّ واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إلهٌ وآبٌ واحد، للكل وعلى الكل وبالكل وفي كٌلِّهم (أف 4: 3 - 6).
إذاً لا يُعقَل أن الاختيار ربما كان عملاً كيفياً أو عرضياً. فإن كان يتحكم به قصدُ جَعْلِ المسيح رأساً والكنيسة جسده، يكون ذا طبيعة عضوية وينطوي حتماً على فكرة العهد.
إنما يُشار إلى أمرٍ آخر بعدُ بالشهادة المؤكدة أن الاختيار قد قُصِد أو صُنع في المسيح. فرُغم كل شيء، تظهر الوحدةُ العضوية التي تضمُّ الجنس البشري كلَّه أول ظهور لها في آدم وليس في المسيح. ويدعو بولس آدم بصريح العبارة مثالاً للآتي (رو 5: 14)، كما يدعو المسيحَ آدم الأخير (1 كورنثوس 15: 45). وفي هذا يبدو أن عهد النعمة ينطوي على الأفكار الأساسية والخطوط العريضة التي يشتمل عليها عهدُ الأعمال. فليس هو نقصاً لذلك العهد بل هو بالأحرى إتمامٌ به، تماماً كما أن الإيمان لا يبطل مفعول الناموس بل بالأحرى يعزّزه (رو 3: 21). فمن جهة، كما أشرنا آنفاً، ينبغي التمييز بوضوح كلي بين عهد الأعمال وعهد النعمة ومن جهة أخرى، هما مترابطان ترابطاً وثيقاً. أما الفرق الكبير فكامن في هذا: أن آدم غُرّم بفقد مركزه رأساً للجنس البشري وأن المسيح قد حل محلَّه. على أن المسيح لا يتولى بنفسه فقط إتمام ما أساء الإنسان الأول عملَه، بل أيضاً إتمام ما كان ينبغي لآدم أن يفعله لكنه لم يفعل. فالمسيح يفي عنا المطالب التي يشتمل عليها الناموس الأدبي، وهو الآن يجمع في وحدةٍ واحدةٍ كنيستَه بأكملها في شكل بشرية مجددة خاضعة له رأساً لها. وفي تدبير ملء الأزمنة، يجمعُ الله كلَّ شيءٍ في المسيح أيضاً - ما في السماوات وما على الأرض (أف 1: 10).
ولا يُمكن أن يحدث جمعٌ كهذا إلا بطريقةٍ عضوية. وإذا كان عهد النعمة في ذاته قد تم التفكير فيه باعتباره عضوياً في المسيح، فمن ثم كان يجب أن يقوم ويستمر بطريقة عضوية. من هنا نلاحظ أن هذا العهد لم يكن يوطَّد في التاريخ مع شخصٍ واحدٍ بمفرده، بل دائماً مع إنسانٍ وأسرته أو قومه - مع آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسرائيل، والكنيسة ككُل. فالوعد لم يخص مرة مؤمناً فرداً لوحده، بل كان يشمل معه دائماً بيته أو أسرته أيضاً. ذلك أن الله لا يحقق عهد نعمته بانتقاء بضعة أشخاص من البشرية كيفما اتفق، وبتجميع هؤلاء معاً في نوعٍ من التجمع حول العالم. بل إنه بالأحرى يحمل عهده إلى داخل البشرية، ويجعله جزءاً من العالم لا يُجتزأ، ويُعنى بأمر الحفاظ عليه من كل سوءٍ في العالم. فإذ يقوم الله بعمله فادياً أو خالقاً من جديد، يتبع الخط نفسه الذي رسمه باعتباره خالقاً ومدبراً وضابطاً لكل شيء. فالنعمة شيء يختلف عن الطبيعة ويسمو عليها، إلا أنها مع ذلك تواكب الطبيعة، فلا تدمرها بل بالأحرى تُصلحها. وليست النعمة إرثاً يؤول بالولادة الطبيعية، بل هي تجري فعلاً في المجرى الذي شق طريقه في العلاقات الطبيعية القائمة في الجنس البشري. فإنَّ عهد النعمة لا يهيم على وجهه كيفما اتفق، بل يُخلِّد ذاته - تاريخياً وعضوياً - في الأُسر والأقوام والأمم.
وأما المزية أو الخاصية الثالثة والأخيرة التي يتميز بها عهد النعمة فهي تقترن بالثانية، وهي أن هذا العهد يحقق ذاته بطريقةٍ ترعى طبيعة الإنسان العقلية والخُلُقية. أجل، إنه مؤسسٌ على مشورة الله. وهذه حقيقة لا يمكن أن يُنقص منها أي شيء. فمن وراء عهد النعمة تكمن مشيئةُ الله المطلقةُ السيادة، والكلية القدرة، التي تتخللُّها الطاقة الإلهية اللامتناهية، والتي تضمن بالتالي انتصار ملكوت الله على قوى الخطية بأجمعها.
غير أن تلك المشيئة ليست ضرورة حتمية أو مصيراً جبرياً يفرض ذاته على الإنسان من الخارج، بل هي بالأحرى مشيئة خالق السماوات والأرض، مشيئة ذاك الذي لا يمكن أن ينقض عمله الخاص في الخلق والعناية، ولا أن يعامل الكائن البشري الذي خلقه كما لو كان خشبةً أو حجراً. ثم إن هذه المشيئة هي أيضاً مشيئة آبٍ رحيم ومُحسِن لا يُجري شيئاً بالقوة إكراهاً، بل يقهر بنجاحٍ كل مقاومتنا بما للمحبة من قوة روحية. فليست مشيئة الله قوة عمياء غير عاقلة، بل إنها مشيئة حكيمة ومُنعِمة ومُحِبة، كما أنها في الوقت نفسه مشيئة حرة وكلية القدرة. ولذلك يقوم الله بعمله فعلاً في صراعٍ مع أفهامِنا المُظلمة وإرادتنا الأثيمة، حتى إن بولس استطاع أن يقول عن الإنجيل إنه ليس حسب الناس، أي غير متجاوبٍ مع البصائر الغبية والرغائب غير السوية التي للإنسان الساقط (غلاطية 1: 1). ولكن هكذا يليق أن تعمل مشيئةُ الله، لأنه يريد بالتحديد أن ينقذنا من كل ضلال الخطية ويُعيد إلى سواء الحال طبيعتَنا العقلية والخُلقية بكامل صحتها وسلامتها.
وهذا يُبين السبب الكامن وراء حقيقة أن عهد النعمة يتناهى إلينا في صورة وصية تحفزنا على الإيمان والتوبة (مرقس 1: 15). وإن كان هذا العهد في حد ذاته لا يطلب أية مطالب ولا يضع أية شروط. فبالنظر إلى ما هو في ذاته، يتبين أنه نعمةٌ صرف، ولا شيء سواها، وانه يُقصي الأعمال من أي نوعٍ كانت. إنه يعطي ما يطلب، ويُنجز ما يُوصي به. فما الإنجيل سوى بشارة خالصة - لا طلب، بل وعد؛ ولا واجب بل هِبة. ولكن لكي يصبح الإنجيل بالنسبة إلينا حقيقةً واقعة باعتباره وعداً وهِبة، فهو يتخذ صفة التحريض الأدبي وفقاً لطبيعته. إنه لا يُريد أن يُرغِمنا، إلا أنه لا يُريد أقل من أن نقبل بالإيمان، طوعاً واختياراً، ما يريد الله أن يُعطينا إياه. فإن مشيئة الله لا تحقق ذاتها إلا عن طريق عقولنا وإرادتنا. ولهذا حق القول إن شخصاً ما، بالنعمة التي يحصل عليها، هو بنفسه يؤمن وهو بنفسه يتوب عن الخطية إلى الله.
ونظراً لأن عهد النعمة يدخل إلى وسط الجنس البشري على هذا النحو التاريخي والعضوي، فلا يمكن أن يظهر هنا على الأرض في صورةٍ توافق جوهره تمام الموافقة. إذ يبقى في المؤمنين الحقيقيين كثيرٌ مما يُناقض على خطٍّ مستقيم الحياة المتناغمة مع مطلب العهد: سر أمامي وكن كاملاً (مستقيماً)؛ كونوا قديسين لأني أنا قدوس. وليس هذا فقط، بل قد يوجد أيضاً أشخاص يشملهم عهد النعمة كما يتجلى للعِيان، إلا أنهم رغم ذلك محرومون من كل ما ينطوي عليه العهد من بركات روحية، وذلك بسبب قلبهم غير المؤمن وغير التائب. وليست هذه هي الحال في أيامنا فقط، بل هكذا كانت وما تزال على مر العصور. ففي أزمنة العهد القديم، لم يكن جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليين (رومية 9: 6)، إذ ليس أولاد الجسد هم أولاد الله، بل أولاد الموعد يُحسبون نسلاً (رو 9: 8؛ 2: 29). وفي العهد الجديد تضم الكنيسة (كهيئة منظورة) تبناً مع الحنطة، وأغصاناً رديئة معلقة بالكرمة، وأواني من خزف مختلطة بأوانٍ من ذهب.[76] فثمة قومٌ لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها (2 تيموثاوس 3: 5).
على أساس هذا التناقض بين الجوهر والمظهر، حاول بعضهم أن يُجروا تمييزاً وفصلاً بين عهدٍ داخليٍّ، أقيم مع المؤمنين الحقيقيين على نحوٍ حصري، وعهدٍ خارجيٍّ يشمل المعترفين ظاهرياً. إلا أن مثل هذا التفريق أو الفصل لا يُمكن أن يقوم في ضوء تعليم الكلمة المقدسة. فالذي جمعه الله لا يجوز أن يفرقه الإنسان. وما من أحد يمكنه أن ينكر ضرورة تجاوب المظهر والجوهر، ولا وجوبَ التناغُم بين الاعتراف بالفم والإيمان بالقلب (رو 10: 9). ولكن، رغم أنه لا يوجد عهدان يقفان جنباً إلى جنب عن بُعد، يمكننا أن نقول إن عهد النعمة الواحد له جانبان: أحدهما ظاهرٌ أمام أنظارنا، والآخر ظاهرُ أمام نظر الله وحده دون سواه. فعلينا أن نراعي القاعدة القاضية بأننا لا نستطيع أن نحكم على القلب، بل على السلوك الخارجي فقط، وحكماً يعتريه النقص أيضاً. وعليه، فإن الذين يبدون أمام أعيُننا البشرية سالكين في طريق العهد ينبغي أن نَعدَّهم ونعاملهم باعتبارهم شركاء لنا في النعمة، بحسبما يُمليه علينا حُكم المحبة. إلا أن ما يحدِّد الحقيقة في آخر الأمر ليس هو حكمنا بل حكم الله. فهو فاحص القلب ومختبر الكُلى؛ وليس عنده محاباة. فإن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب (1 صموئيل 16: 7).
إذاً، ليمتحنْ كلُّ واحدٍ نفسه، هل هو في الإيمان، وهل يسوع المسيح فيه (2 كورنثوس 13: 5).
(69) أع 13: 48؛ رو 8: 29؛ أف 1: 5.
(70) مت 26: 42؛ يو 4: 34؛ في 2: 8؛ عب 5: 8.
(71) إش 53: 10؛ يو 6: 38 – 40؛ 10: 18؛ 12: 49؛ 17: 4.
(72) مز 2: 8؛ إش 53: 10؛ يو 17: 4، 24؛ في 2: 9.
(73) 1 كو 12: 12، 27؛ أف 1: 22 و 23؛ 4: 16.
(74)لا 18: 5؛ خر 20: 11، 13؛ مت 19: 16 وما يلي؛ رو 10: 5؛ غل 3: 12
(75) إش 43: 25؛ 48: 9؛ إر 14: 7 ، 12.
(76) مت 3: 12؛ 13: 29؛ يو 15: 2؛ 2تي 2: 20.
- عدد الزيارات: 485