Skip to main content

الفصل الأول: الكفّارة

كان الهدفان العظيمان لرسالة السيد المسيح في مجيئه إلى العالم, أولاً: رفع اللعنة التي كان يرزح تحتها الجنس البشري كنتيجة لمعصية آدم وسقوطه في الخطية, وثانياً: إعادة الإنسان إلى مرتبته الأولى عندما كان يتمتع بصورة الله وبشركة كاملة معه تعالى. وكان هذان الهدفان ضروريين لعمل الخلاص والفداء. ندعو عمل المسيح في المصالحة بين الله والإنسان بالكفّارة, وهذه العقيدة الكتابية تشكل قلب النظام المسيحي العقائدي.

ونحن نعتمد اعتماداً كلياً على الكتاب المقدّس للحصول على المعرفة الصحيحة بخصوص عقيدة الكفّارة. وغايتنا في هذه الدروس التي أذعناها على برامج "ساعة الإصلاح" هي إعطاء بياناً منظّماً لتعاليم الكتاب عن موضوع الكفّارة. وهذه التعاليم تروي ظمأ الإنسان الذي يتوق إلى المصالحة مع الله والعيش معه في شركة روحية مقدّسة.

نقرأ في إحدى بيانات الرسول بولس ما يلي عن خلاصة المعتقد المسيحي الذي كان ينادي به: "فإني سلّمتُ إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب, وأنه دُفِنَ وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب". (من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل الإيمان في كورنثوس 15: 3). نلاحظ أن الرسول يعطي لموت المسيح في بيانه الموجز للمعتقد المسيحي المكان الأول والأساسي: "المسيح مات من أجل خطايانا". هذه الكلمات تشكّل خلاصة الإنجيل ولبّ الدعوة المسيحية في العصر الرسولي. وما أن نأتي على ذكر هذه الحقيقة التاريخية والعقائدية حتى تبرز إلى الوجود عدة مواضيع حيوية. وهكذا نقول: لكي نتمكن من فهم هذه الحقيقة الحيوية فهماً مع معقولاً يتوجب علينا معرفة طبيعة ما أنجزه السيد المسيح بموته على الصليب وكيف تم ذلك الأمر الهام. ومن المستحيل لنا كمؤمنين أن نقبل أي تفسير لهذه العقيدة الأساسية إن كان تفسيراً مبهماً أو غامضاً. ونشكر الله أن الكتاب المقدس يعطينا تفسيراً كافياً لموت المسيح, ذلك التفسير الذي يتطلبه العقل المستنير بعمل الروح القدس والذي من واجب سائر المؤمنين أن يصلوا إلى معرفته معرفةً كافية. وبما أننا نعتقد بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله للإنسان, فإن تعاليم الكتاب عن موت السيد المسيح كان يقصد منها أن يفهمها المؤمنون العاديون من رجال ونساء. ونحن نتمسك بهذه التعاليم الكتابية ونعلم أنه من واجبنا أن "نفتش الكتب" تحت إرشاد الروح القدس لنصل إلى تفهّم كل ما أعلنه الله في كتابه عن موضوع الكفّارة.

ويجدر بنا أن نذكر بهذا الصدد أنه من المستحيل لنا أن نوضح هذا الموضوع إيضاحاً تاماً وكلياً أو أن نتفهمه تفهماً تاماً, هذا غير ممكن حتى في الأمور الطبيعية مثل الكهرباء والجاذبية وطبيعة الإنسان وحياته العقلية والجسدية. إلا أن الخطوط الرئيسية لتدبير الله الخلاصي هي معلنة بكل وضوح في الكتاب المقدس, ومن امتيازنا, بل من واجبنا أن نطّلع على هذه الأمور بالمقدار الذي شاء أن يكشفه الله لنا في وحيه المقدّس. ولقد أخبرنا تعالى بأننا نحن البشر أعضاء في الجنس البشري الواحد والساقط وأنه تعالى بذل ابنه الوحيد يسوع المسيح لأجل فدائنا وإنقاذنا من حمأة الشر والخطية, وأن هذا الخلاص والإنقاذ والتحرير يتم من الله وليس بواسطة أي أعمال يمكننا أن نقوم بها. كل إنسان يقبل هذه الحقائق ويتصرف بموجبها يختبر الخلاص. ولكن ذلك يشكّل حدّاً أدنى للإيمان إذ أن الله يتطلب منّا أيضاً أن ننمو في إيماننا ونوسّع معرفتنا بمقدار عظيم لطريق الخلاص.

وتمهيداً لموضوع الكفّارة علينا أن نتذكر بأن الله بعدما خلق الإنسان وضع بعض شرائع أخلاقية لتنظيم وتنسيق حياة الإنسان. وكذلك كشف الله بكل وضوح عن أن عدم إطاعة هذه القوانين والشرائع سيؤول إلى عواقب وخيمة وأن القصاص سيكون هائلاً ! وقد أُعطيَ الإنسان لامتحان طاعته لله تعالى أذناً بأن يأكل من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة معرفة الخير والشر. قال الله عن هذه الشجرة المحرّمة: "في اليوم الذي تأكل منها موتاً تموت" ومن المؤسف جداً أن الإنسان تحدى وصية الله وثار عليه وأكل من الشجرة المحرّمة. وعصيانه هذا لم يؤد فقط إلى فساد حياته وطبيعته الأخلاقية بل جلب عليه وعلى نسله القصاص المنوّه عنه في الوصية الإلهية. ونرى فداحة خطية الإنسان الأول نظراً لمقدار تلك الأمور العظيمة والباهرة التي كان يتمتع بها ومعرفته السابقة لعواقب تحديه للإرادة الإلهية. أدت جميع هذه العوامل إلى إظهار فظاعة خطية الإنسان وأنه ويا للأسف الشديد قد نقل ولاءه من الله إلى إبليس الرجيم. ولم يُفسِد آدم نفسه فقط بسقوطه في الخطية بل أفسد الجنس البشري بأسره إذ أن الله تعالى كان قد عيّن آدم ممثلاً ونائباً عن البشرية بأسرها. ولو ترك الله الإنسان ليواجه عقاب سقوطه في الخطية لاختبر الإنسان ليس فقط الموت الجسدي (أي انفصال الجسد عن الروح) بل الموت الروحي أيضاً (أي الانفصال الأبدي عن الله ومن ثم التقدم اللانهائي في الخطية والألم) وهذا بالفعل ما حدث لإبليس ولأعوانه الشياطين الذين كانوا ملائكة وسقطوا في الخطية فتركوا لاحتمال عواقبها الوخيمة والفظيعة.

وعندما سقط الإنسان في الخطية وفي الشر, أصبح من الناحية الروحية والأخلاقية, نجساً ومجرماً لا رغبة له ولا مقدرة لإصلاح ذاته! ولم يكن هناك أي عضو من أعضاء الجنس البشري قادراً أو راغباً في أن يأخذ مكان الإنسان أو أن يتحمل عنه الآلام والموت وينقذه إنقاذاً فعلياً من سيطرة إبليس ومن عبودية الخطية الغاشمة.

وكم من حسن حظ الإنسان أنه كان هناك من هو قادر وراغب في القيام بإنقاذه من الموت! نعم إن السيد المسيح (وهو الأقنوم الثاني في اللاهوت الأقدس) تجسّد أي أخذ على نفسه طبيعة بشرية حقيقية فأنجز للإنسان عملاً مزدوجاً: أولاً احتمل عن الإنسان العقاب من آلام وموت, وثانياً أعاد للإنسان الحياة والقداسة وذلك بواسطة طاعته التامة للشريعة الإلهية. وهكذا افتدى المسيح المخلّص جمهوراً عظيماً من البشر لا يمكننا أن نحصي عدده. فكم هي لائقة إذن كلمات الرسول بطرس الموجهة للمؤمنين: "إنكم افتديتم لا بأشياء تفنى, بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلّدتموها من الآباء, بل بدمٍ كريمٍ كما من حمل بلا عيب ولا دنس: دم المسيح" (من رسالة بطرس الأولى 1: 18 و19) وكم عذبة وحلوة هذه الترانيم السماوية المسجلة لنا في سفر الرؤيا والتي تترنم بعمل المسيح الفدائي والكفّاري:

"مستحقٌ أن تأخذ السفر وتفتح خثومه لأنك ذُبحتَ واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة! وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة فسنملك الأرض!" (5: 9 و10).

"البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين!" (7: 12).

"عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر على كل شيء, عادلة وحق هي طرقك يا ملك القديسين! من لا يخافك يا رب ويمجّد اسمك لأنك وحدك قدّوس لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك لأن أحكامك قد أُظهرت!" (15: 3 و4).

  • عدد الزيارات: 4229