Skip to main content

الفصل الثاني: من ميلانو إلى مكة

المرسوم القسطنطيني

في دراستنا لهذه الحقبة الزمنية نحصر الكلام في مسيحية بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية وجزيرة الفرات. فنستثني مصر لأن الهجرة العربية لم تشملها قبل الإسلام مما يجعلها خارج اهتمامنا.

حدت صعوبات جمة لاقتها المسيحية في القرون الثلاثة الأولى من تقدمها، فسارت سير السلحفاة بسبب وقوف الوثنيين واليهود لمقاومتها. زحفت لكنها لم تتعطل في سيرها، ومع بدايات القرن الرابع أخذت تتحرك بحرية وقوة أكثر.

أصدر الملك قسطنطين الكبير سنة 313 م. مرسوماً عُرف في التاريخ باسم "مرسوم ميلانو"، أعطى فيه للناس الحرية الدينية، وكانت النتيجة أن نَعِمت الكنيسة بالسلام ودخلت مرحلة ثانية من تاريخها. فامتدت إلى أطراف الشام الجنوبية ومختلف المناطق التي ترتفع فيها كثافة السكان العرب، حيث نشأت أسقفيات تكاثر عددها بشكل واضح بحلول القرن الخامس.

في هذا الجوّ من السلام النسبي والحرية الدينية، الذي عاشته كنيسة المشرق مدة ثلاثة قرون، جرت أحداث تاريخية كبرى، هي:

1 -  تأسيس القسطنطينية، التي أصبحت بعدئذٍ عاصمة الدولة الرومانية الشرقية وعُرفت في التاريخ بـ "الدولة البيزنطية" أو "دولة الروم".

2 -  تأسيس بطريركيات في القدس، وإنطاكيا ، والإسكندرية، والقسطنطينية.

3 - ازدهار الحياة الرهبانية، والتعاليم اللاهوتية، والطقوس الكنسية. وقد عرف الرهبان بكدهم ونشاطهم في تعريف العرب بالمسيحية، وفي بناء الأديرة التي ارتادها العرب في رحلاتهم التجارية في بلاد الشام والعراق والحجاز والنجد وجنوبي الجزيرة العربية وشرقها.

4 - التعمّق في فهم سر الثالوث الأقدس، وألوهية المسيح، مما أدى إلى نشؤ العديد من المذاهب.

المذاهب المسيحية

كانت الكنيسة، وبسبب الاضطهادات في القرون الثلاثة الأولى، تكتفي  في عرض المسيحية  والتبشير  بالأساسيات. ولمّا نعمت بالحرية  انكب  مفكريها  على دراسة مضمون إيمانهم. إلاّ  أن  بعضهم أخطأ في السير الفكري،  فنشأت جراء المفاهيم المغلوطة والتلاعب في الألفاظ مذاهب عديدة ساد البعض منها روح الهرطقة. وقد وصل الجدل في الأمور اللاهوتية إلى عامة المؤمنين، حتى أن القديس غريغوريوس النيصي قال: "إذا سألت أي شخص عن تغيير العملة،  ناقشك

عما إذا  كان  الابن مولودا  أو غير مولود، وإذا  سألت عن  جودة الخبز، أجابك أن الأب أعظم  والابن أقل.  فإذا اقترحت

ضرورة الاستحمام، أخبرك أنه لم يكن هناك شيء قبل خلق الابن".[28]

لقد تميز المسيحيون في الشرق والغرب بشغفهم الزائد للمساجلات اللاهوتية، وقامت بينهم خلافات عميقة فيما يتصل بطبيعة المسيح ووحدة شخصه. فاختلفوا في أن للمسيح:

أ   - طبيعتان وأقنومان (الديوفيزيقية).

ب - طبيعة واحدة إلهية، استحالت إليها الطبيعة البشرية بعد الاتحاد فاختلطتا وامتزجتا (المونوفيزيقية).

ت - طبيعتين وأقنوم واحد.

على أثرها انقسمت المسيحية إلى ثلاثة مذاهب رئيسية لعبت دورا حاسما في إيمان شعوب المشرق، ومنهم العرب. وقد تمثلت هذه المذاهب الثلاثة في الفرق التالية:

النساطرة.

[29] وقد آمنوا بطبيعتين للمسيح، إلهية وبشرية، لكنهم ميزوا بينهما إلى حد الفصل، فلُقبوا "أصحاب الطبيعتين". والمسيح في فكرهم ولد إنسانا محضا ثم سكنته الألوهية ولازمته إلى حين صلبه ثم فارقته. فكان المتألم يسوع البشري بمعزل عن الألوهية. ومن تصريحات نسطوريوس الغريبة: أن "مريم لم تحبل من الروح القدس في اللوجوس، لكن الروح القدس صاغ وكون من العذراء هيكلا يسكنه اللوجوس ... لم يكن الله نفسه لكن الله اتخذه لنفسه وبسبب الذي اتخذه، فان ذاك الذي قد أخذ يدعى أيضا الله". لكن من ناحية أخرى أعلن نسطوريوس إيمانه بكلى الطبيعتين، "اللتين باتحادهما الأسمى والصافي بغير امتزاج لهما الإكرام في الشخص الواحد – الابن الوحيد".[30] وعليه رأى البعض أن الحكم عليه بالهرطقة في مجمع أفسس جور مبالغ فيه، ولاسيما أن المجمع كان الأكثر اضطرابا وتحزبا بين المجامع الكنسية التي عقدت في القرون الأولى. أما نسطوريوس، فبعد نفيه إلى جزيرة العرب سجل سيرة حياته تحت عنوان "المأساة"، ويقال بأنها سيرة محزنة جدا تحرك عواطف كل من يقرأها.

اشتهر النساطرة بمدارسهم في الرها ونصيبين، ومنها انطلقوا بعملهم التبشيري المنظم والمرموق بين القبائل العربية وفي كل ربوع القارة الأسيوية. فانتشروا في العراق بين أهل  الحيرة ومنها  انتقلوا إلى قطر وجزر البحرين وعمان واليمامة واليمن. بل ووصلوا إلى مملكة التتر والمغول والهند وتركستان والتيبت والصين. "وقد وجد في مدينة سينجان في الصين نقش على الحجر باللغتين السريانية والصينية يرجع عهدها إلى سنة 781 م".[31]

اليعاقبة.

[32] وبالمقابل قال اليعاقبة بالطبيعة الواحدة في المسيح. فمزجوا اللاهوت بالناسوت وجعلوا منه اقنوماً واحداً كانت الألوهية فيه غالبة. وراح اليعاقبة في القرن السادس ينافسون النساطرة في التأثير على القبائل العربية، وبشكل خاص على البدو الرحل. وقد لاقى مذهبهم  انتشارا واسعا في سوريا والعراق والجزيرة الفراتية، وامتد إلى شبه الجزيرة العربية وجنوبها، حتى وصل إلى الهند. يقول ابن العبري، أن معظم نصارى العرب كانوا من اليعاقبة الذين لجئوا  إلى  بلاد  العرب  طلبا  للحرية وهربا من الاضطهاد الذي ألم بالكنيسة الشرقية. ويقول  جرجي  زيدان: "هم عامة أهل مصر ومعظم أهل الشام".[33] ومن الفرق المسيحية التي تبنت مذهب الطبيعة الواحدة، الأقباط الأرثوذكس، والسريان الأرثوذكس، والأرمن الأرثوذكس والأحباش الأرثوذكس.

-------------------------------------

28 - تاريخ الكنيسة، جون لوريمر ج 3 : ص 101

29 - نسبة إلى نسطوريوس الأشوري أسقف القسطنطينة من 428 م إلى 431 م.

30 - تاريخ الكنيسة، جون لوريمر ج 3 ص 205 – 206

31 - عن كتاب "المسيحية والحضارة العربية" الأب الدكتور جورج شحاتة قنواتي ص 30، ويتحدث الدكتور القس جون لويمر عن مخطوط عثر عليه في دير بوذي كتبت عليه تسبحة للثالوث وميلاد اقنوم الابن. راجع "تاريخ الكنيسة"، جون لوريمر، ج5 ص 133 -134

32 - نسبة إلى مار يعقوب البرادعي السرياني من مواليد مدينة الأجمة قضاء نصيبين حوالي 500م.

33 - مقالة في الإسلام – جرجس سال، الجزء الأول "حقائق عن العرب في الجاهلية" ص 41، تاريخ التمدن الاسلامي - جرجي زيدان ج 5 ص 16

الملكانيون.

[34] وهم أتباع عقيدة مجمع خلقيدونية التي تبناها الملك البيزنطي سنة 451 م. وكان هذا المجمع قد أعلن بأن للمسيح طبيعتين لا اختلاط بينهما ولا تجزؤ ولا انفصال ولا يمكن أن ينتفي اختلافهما بسبب اتحادهما. هو مسيح واحد وابن واحد ورب واحد، المولود الوحيد بطبيعتين غير ممتزجتين ولا متغيرتين ولا منقسمتين ولا منفصلتين. وقد انتشر المذهب الملكاني في شمال دمشق وحمص وقنسرين، وبصرى، والرصافة، وتدمر، وكانت لغة الملكانيين الطقسية اليونانية.

لم يحسم إقرار الإيمان الخلقيدوني الخلاف بالنسبة للكنيسة الشرقية. فقد استمر الصراع بين المذاهب الثلاثة، وكثر الجدل العقائدي وتفشى بين قادة الكنائس والأكليروس بمختلف درجاته ورتبه. لكن بعد قرون من المساجلات العقائدية تبين للكثيرين، أن الخلاف الأساسي كان محصورا فقط في الألفاظ والمفاهيم الفلسفية لا في المعاني الروحية الجوهرية. يقول الدكتور أنطوان فليفل: "كثير من اللاهوتيين العرب في القرون الوسطى، أي اللاهوتيين المشرقيين الذين كتبوا باللغة العربيّة، أكانوا نساطرة، ملكيّين أو يعاقبة أجمعوا بالقول أنّ ما يميز المسيحييّن بعضهم عن بعض ليس المحتوى الإيماني، بل طريقة التعبير عنه... وأوعز البعض منهم الانقسام بين المسيحيين إلى "تورط الهوى" أو "العصبية"، "غمرات الجهل" و"حب التسلط".[35]

تغلغل المسيحية بين معظم قبائل العرب

من الثوابت التي لا تقبل جدلاً، تنصر العديد من قبائل العرب  قبل الإسلام، إما كلية  أو  بجزء  كبير منها. وأن المسيحية لاقت انتشارا واسعا بينهم بعد النصف الأول من القرن الرابع، ثم تواصل انتشارها إلى أن تنظمت بكيفية ممتازة. فتغلغلت في سليح، وغسان، وبهراء التي قطنت في جهات حمص وتدمر، وقبائل البلقاء التي أطلق عليها المؤرخون اسم "المستعربة"، وبنو قيس من قبائل البحرين، وأهل الدومة، والحيرة، وبلاد الشام وباديتها، وفي أعدادا كبيرة من أشراف قبيلة كلب، وخاصة من بني كنانة. [36]

قال المؤرخ الألماني فلهاوزن بتنصر تميم وربيعة ومذحج. وقال اليعقوبي بتنصر أحياء العرب من قريش و طيء وبهراء. ونقل عن الإصطخري، أن تغلب بأرض الجزيرة وغسان وبهراء وتنوخ من اليمن بأرض الشام تنصروا. ونقل عن ابن خلدون أن قبيلة كلب القاطنة في دومة الجندل وتبوك دخلت في دين النصرانية. وشهد الجاحظ بتغلغل المسيحية بين الكثير من قبائل العرب وملوكها ومشاهيرها، وأنها كانت الغالبة على ملوك العرب وقبائلها، لخم وغسان وقضاعة وطيّ. وأكد المستطرف أن أهم القبائل التي تنصرت حمير وغسان وربيعة وتغلب وبهراء وتنوخ وبعض طيء وقضاعة وأهل نجران والحيرة.[37]

كان للتحالف السياسي شان في تاريخ بعض القبائل المسيحية المستوطنة أو المتنقلة على أطراف الجزيرة العربية، نتيجته نشأت في جانبي الصحراء السورية ممالك متعددة يمكن تقسيمها إلى فئتين. الفئة الأولى: عربية مسيحية متحالفة مع بلاد الروم، تتألف من التنوخيون، سكان بعض مناطق العراق، والصالحيون، الذين سادوا بادية الشام، والغساسنة آل جفنة، وهم استوطنوا بلاد حوران وشرقي الأردن وفينيقيا لبنان وفلسطين. الفئة الثانية: عربية مسيحية متحالفة مع بلاد الفرس وهي مملكة اللخميين أو مملكة المناذرة، الذين أسسوا دولتهم في الحيرة فعاشوا في حروب متواصلة مع  الغساسنة  لتحالفهم مع البلاط الفارسي لصيانة الحدود.[38]

--------------------------------

34 - وقد سمّوا بالملكيين لأن الملك البيزنطي تبنى قرارت مجمع خلقيدونية ومن تبع هذا الملك صار ملكاني.

35 - الدكتور أنطوان فليفل، مقالة:"آفاق مسكونيّة مشرقيّة"، جريدة النهار 30.11.2008

36 - تاريخ المسيحية العربية، الدكتورة سلوى بالحاج، ص 33 – 44

37 - Julius Wellhausen, Reste arabischen Heidentums, 2 Auflage , Berlin 1897 S. 242، اليعقوبي 1/ 101 ، سلوى بالحاج، ص 42، كتاب "الحيوان" للجاحظ 7- 216 ، المستطرف، عن كتاب "مقالة في الإسلام"، جرجس سال، الجزء الأول ص 41

38 - المسيحية العربية- تاريخها وتراثها، الاب ميشال نجم ص 28 ، المسيحية والحضارة العربية، قنواتي ص 49

ازدهرت المسيحية في إمارة  الغساسنة في سوريا،  وفي مملكة  اللخمين جنوب  العراق، ومملكة  الحميريين  في  اليمن،  ثم انتشرت في كل أقصاع الجزيرة العربية. أما الكيفية التي انتشرت بها فكانت فذة ومعجزية ولم يكن لقوة السيف موضع فيها، بل كانت بشارة تعتمد على:

1 - إرشاد الروح القدس

2 - برهان المعجزات

3 - البذل والتضحية

4 - العلم و الطب والمنطق

5 - العمل في تطوير الحياة الاجتماعية

وتنقل لنا أخبار الكنيسة، ولاسيما السريانية منها، الكثير مما صنعه الله بين العرب ومقدار التضحيات التي بذلها المبشرين والرهبان في سبيل تعريفهم بإنجيل المسيح. وتؤكد المصادر الإسلامية حقيقة انتشار الإنجيل بين العرب، غالبا بطرق معجزية.

أوجز الدكتور جواد علي ما أوردته المصادر المتعددة في طبيعة الكرازة المسيحية بأجمل صورة. فقال:

"وإذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فإن دخول النصرانية اليها كان بالتبشير"..."وبفضل ما كان لكثير من المبشرين من علم ومن وقوف على الطب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس، تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم... ومنهم من شفى بعض الملوك العرب من أمراض كانت به ... فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب، وعاشوا عيشتهم، وجاروهم في طراز حياتهم، فسكنوا معهم الخيام، حتى عرفوا ب "أساقفة الخيام" و "أساقفة المضارب"... "أدرك الرهبان والمبشرون أثر هذه الحالات المرضية، ولا سيما الأمراض النفسية منها في نفوس أولئك الرؤساء، وجلهم ممن درس الطب وقرا الكتب المؤلفة فيه ومارسه عملياً، فذهبوا بأنفسهم إلى القبائل للتبشير، وعالجوا الرؤساء معالجة نفسانية في الغالب، وأثروا فيهم، ونجحوا في مثل هذه الحالات في كسب عطفهم عليهم وتأييدهم لهم، وفي الدخول في جوارهم، للقيام بالتبشير. ونجد في النتف الباقية عن حياة المبشرين الذين بشروا بين العرب قصصاً من هذا النوع روي في معالجة بعض الرؤساء، يذكر أنهم نجحوا في معالجتهم وأن نجاحهم هذا هو كرامة ومعاجز قد تمت بفضل الله ومنةّ المسيح".[39]

--------------------------------

39 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي ، الفصل 79 والفصل 129 و الفصل 141

  • عدد الزيارات: 4121