الفصل الثالث: المسيحية بين عرب الشام
امتدت المسيحية إلى أطراف الشام الجنوبية ومختلف المناطق التي ترتفع فيها كثافة السكان العرب. وقد تكونت بهذه المناطق أسقفيات عديدة منذ منتصف القرن الرابع. وما يؤكد هذا الرأي شهادة التاريخ الكنسي عن الأساقفة الذين شاركوا في جلسات المجامع المسكونية ووقعوا محاضرها باسم "أساقفة العرب". ومن الأساقفة العرب برخيوس الحاضر في مجمع سلوقية سنة 359 ، وثيوتيم في أنطاكيا سنة 336، وأسقف عرف باسم "بطرس"، هو الذي وقع في مجمع أفسس بصفة "أسقف محلة العرب"، ويعتقد بأنه ذات الشخص الذي وقع في مجمع خلقيدونيا باسم "بطرس أسقف المضارب". وقد كان بين أساقفة القدس، أسقف من أصل عربي، اسمه إلياس. كما أن مجمع القسطنطينية حضره خمسة أحبار من الإقليم العربي، أحبار بصرة ودرعا والسويدا وبراق وشيخ مسكين. [40]
كانت قبائل قضاعة أول القبائل التي هاجرت من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وتنصرت هناك. فيها قال اليعقوبي: "دخلوا في دين النصرانية، فملكهم ملك الروم على من ببلاد الشام من العرب، فكان أول من ملك منهم: النعمان بن عمرو بن مالك". [41] ويذكر المسعودي: "كانت قضاعة أول من نزل الشام وانضموا إلى ملوك الروم فملكوهم بعد أن دخلوا في النصرانيّة". [42]
ثم لحق بقضاعة قبائل أخرى، أشهرها غسان، التي نزحت من اليمن بعد انهيار سد مأرب في القرن الثالث واستوطنت البلقاء والبادية السورية، حوران ودرعا والجولان. كان يرأسها يومئذ جفنة بن عمرو بن عامر، الذي تنصر هو وسائر من معه وأقاموا هناك مملكة تابعة للروم. [43] وكان آل جفنة أعرق العرب حضارة، إذ أنشأوا ثقافة عربية امتزجت بالعناصر السريانية واليونانية. علاوة على ذلك أتمّوا تنصير القبائل العربية الأخرى، كبني قضاعة، وربيعة وإياد وبني كلب وغيرهم.[44]
جاء عن أبي الفدا وغيره، أن جفنة بنى في الشام عدة قرى وقصور وحصون، وبنى ابنه عمرو بالشام أديرة كثيرة، منها دير حالى ودير أيوب ودير هند. كانت عاصمتهم تسمى بالسريانية حرتة، أي معسكر، والتي أصبحت في ما بعد بالعربية الحيرة.[45] وقد ذكر ابن العبري، أن الملك المنذر بن الحارث"منذر برحرت" كان نصرانياً وأن جنوده كانوا نصارى كذلك.[46] ويقال بأن الحارث هو الذي أمر ببناء كنيسة الرصافة الكبرى.
شاع بين العرب بشكل خاص المذهب اليعقوبي، فيتحدث الأب لويس شيخو عن وثيقة سريانية من القرن السادس وقع عليها 137 من رؤساء الأديرة في إقليم العربية الممتد من شرقي بلاد الشام إلى جهات الفرات، واستنادا على ما رواه ابن العبري، كانوا بجملتهم على المذهب اليعقوبي.[47] ويتضح لنا مما يحكيه التاريخ السرياني في أخبار يوحنا الأفسسي،
----------------------------------
40 - النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، الأب لويس شيخو، ج 1 ص 34 ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام – الدكتور جواد علي ، الفصل 80
41 - تاريخ اليعقوبي 1/80
42 - المسعودي، مروج الذهب ج1 ص 421 ، أيضا: النصرانية وآدابها، لويس شيخو، ج1 ص 29 – 30
43 - سيرة ابن هشام – الجزء الأول- عمرو بن عامر في خروجه من اليمن، تاريخ اليعقوبي 1/79 – 80
44 - المسيحية العربية، تاريخها وتراثها – الاب ميشال نجم، ص 112
45 - المسيحية والحضارة العربية، الأب الدكتور جورج شحاته قنواتي، ص 49، تاريخ سوريا الدنيوي والديني – المطران يوسف دبس، ص 33
46 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام – الدكتور جواد علي ، الفصل 38
47 - النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، الأب لويس شيخو، ج1 ص 105- 106
طبيعة العلاقة العميقة للراهب يعقوب البرادعي مع ملك الغساسنة الحارث الخامس، وأنه تأسست منذ سنة 543 م أسقفية عربية يعقوبية هي "أسقفية غسان".[48] وكذلك الأمر في المصادر الكنسية، شهادات مميزة عن المنذر بن الحارث أمير الغساسنة، وأهمها توقيع سرجيس رئيس دير عوقبثا على رسالة تدين مخالفي الفكر اليعقوبي. يقول نص التوقيع: "أمضيت بدلا من القس مار أوسطت نائبي وهو قسيس بيعة المنذر المجيد المحب للمسيح".[49]
انهزم البيزنطيون أمام الفرس سنة 580، فحملوا المسؤولية للمنذر بن الحارث ونفوه إلى صقلية، ثم نفوا ابنه من بعده. على إثرها انقسم الغساسنة إلى فرق كثيرة ونزح بعضهم إلى العراق. لكنهم حافظوا على وجودهم القوي في الشام، إذ أن المصادر العربية تحدثت عن وجودهم ونصرانيتهم عن عند مجيء الإسلام، وكان يومئذ جبلة بن الأيهم أميراً عليهم، وهو من مدحه وأهله حسان بن ثابت بالقول:
لله در عصابة نادمتهم يوماً بجلق، في الزمان الأول
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
وأيضا:
ذاك مغنى لآل جفنة في الدير وحق تصرف الأزمان
صلوات المسيح في ذلك الدير دعاء القسيس والرهبان
كانت قبائل تنوخ من ضمن عرب سوريا في القرن الثالث ومن القبائل المتنقلة في البادية السورية. وثبتت مسيحيتها في كتب العرب والسريان، وامتدت إمارتهم على الطرف السوري ما بين دجلة والفرات، ثم رحلوا بعد اضطهاد الفرس لهم إلى شمال سوريا واستقروا في مناطق قنسرين وحلب. اشتهر من تنوخ أميرتهم ماوية، وتسمى "ماء السماء" لحسنها. ويحكي المؤرخ اليوناني سوزمين قصة ماوية في بلاد الشام ونزاعها مع اليونان حوالي 373م. فيذكر من الشروط التي وضعتها ماوية لمصالحة اليونان أن طالبتهم برسم الناسك موسى أسقفاً على عربها، وكان موسى ناسكاً من جنوب فلسطين لقب فيما بعد بـ "أسقف العرب".[50] وهو الأسقف الذي لعب دورا هاما في تبشير الممالك العربية. يذكر التاريخ من كنائس وأديرة التنوخيين، دير خناضرة في الحيرة، وكنيسة العرب في معرة النعمان، ودير النقيرة قرب المعرة، ودير العرب.
أما من جهة القبائل العربية المتواجدة ناحية فلسطين، فيأتي التاريخ على ذكر الناسك هيلاريون ونشاطه وتأثير حركته في تنصير تلك القبائل، وهي القبائل التي كانت تعبد "العزى".[51]
مما سيق نستدل، بأن عرب بلاد الشام وشرفاءهم وأمراءهم قد عرفوا المسيحية في وقت مبكر وآمنوا بها، وتشبعوا بثقافتها الروحية وشاركوا في مجامعها وحركاتها ومناقشاتها اللاهوتية. وقد كانت لهم في بعض المناطق أبرشيات خاصة بهم. لكن مما تجدر الإشارة إليه، أن مسيحيتهم ظلّت مرتبطة بالكنيسة السريانية والملكية ولم يشكلوا كياناً كنسياً خاصا.
------------------------------
48 - تاريخ المسيحية العربية، الدكتورة سلوى بالحاج، ص 36- 37
49 -
Wright, Catalogue of the Syriac manuscripts in the British Museum عن المسيحية العربية، سلوى بالحاج، ص 38
50 - تاريخ المسيحية العربية، الدكتورة سلوى بالحاج، ص 32، وأيضا الأرشمندريت اغناطيوس ديك، القبائل العربية المسيحيّة في بلاد الشام في عهد صدر الإسلام
51 - سلوى بالحاج ص 31
- عدد الزيارات: 4534