Skip to main content

الاصـحـاح الأول

يفتتح يعقوب الرسالة مباشرةً منذ العدد الثاني دون مقدّمة أو مدخل، وذلك لأنه يكتب الى مؤمنين في ضيقة وألم وتشتّت، ويطلب اليهم أن يحسبوا التجارب الأليمة فرحاً لأنها تمتحن الايمان وتزكّيه وتُنشئ صبراً وتجعلنا تامّين وناضجين وواعين روحياً، لا أطفالاً في الايمان. وهو لا يقول "إذا" وقعتم في تجارب، بل "حينما"، لأن الضيقات لا مفرّ منها، لكن المسيحية تجعلها ايجابية لأنها من يد الآب المُحب وهي لبركتنا، والتجارب متنوعة، لتعلّمنا الصّبر ، ويستخدم كلمة "تجارب" لوصف الضيقات، وذلك، مع أن الرب يسمح بالضيقات، الا أنّ الشيطان يستغلّها لكي يشكّكنا في الرب وبمحبته وعنايته وبطريق الايمان، وأحياناً نقول "قد اختفت طريقي عن الرب وفات حقّّي الهي" (أشعياء 27:40)، فيجرّبنا العدو لكي يُسقطنا في اليأس والكآبة وكأن الرب نسيَنا!. لذا نحتاج الى الحكمة والفهم لمعرفة طُرُق الرب ومعاملاته، فنرى حكمة الرب في كل ما يسمح، وهنا يقول "إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب"، هل يوجد أحد لا يحتاج الى حكمة!؟ كلا، لكن ليس كل واحد يشعر ويقتنع بحاجته الى الحكمة ، فيلتجيء الى الرب طلباً لتدريبه وتشكيله بل البعض ييأس والبعض الآخر يلوم الله وآخرون يلومون أنفسهم. نشكر الرب لأن كل مؤمن مُعطَى له الفرصة لكي يتحوّل الى انسان حكيم وفهيم، شرط أن يشعَرَ بحاجته الى الحكمة ويطلبها من الرب بكل قلبه، والرب يُعطي بسخاء جميع الذين يطلبون والوعد أكيد "فسيُعطى له". كُتبت هذه الرسالة لأن المؤمنين كانوا في ضيق، والذي في الضيق يحتاج الى حكمة ولكي يُعطى حكمة يحتاج الى ايمان وثقة أن الرب يعطي دون ارتياب أو شكّ. الرجل ذو الرأيين والمتقلقل هو الشخص الذي تارةً يفكّر بالفكر الكتابي نحو الأمور اليومية، وتارةً بأفكاره هو. فتراه يُظهِر رأيه هو فيُظهِر انه مظلوم ثم بعد لحظة، يتبنّى رأي الرب فيقول ان الربّ قد سمح بذلك. ولماذا برأيين؟، لأنه لا يريد أن يتضّع ويذهب الى الرب كمحتاج ومنسحق. أما مَن يتضّع، فيفتخر حين يستجيب له الرب ويرفعه، فيفرح باستجابة الرب له.

ثم يلفت يعقوب الانتباه الى أن المؤمن المتضايق، يزداد ضيقُهُ، حين يرى الآخرين مستريحين ومتنعّمين وكأنّهم لا يحتاجون الى شيء ولا يجتازون في ضيق مثله، فيشعر بالمرارة، فيصرّح يعقوب مهدّئاً إيّاه قائلاً، أن الغني والمستغني هو كزهر العشب يزول وسرعان ما يسقط زهره ويذبل، واما مَن يصنع مشـيئة الرب فهذا يثبت الى الأبد. ثم يطوّب الرجل الثابت الذي يحتمل التجربة ويصدّ سهام الشرير المُلتهبة وشكوكه، فيَظهَر ثباته أمام الجميع، ويعد الرب هؤلاء بالتمتّع العملي بالحياة الأبدية والمكافأة التي لا تفنى. لكن ليس كل تجربة هي مِن الله، لأن الله لا يجرِّب بالشرور، ف"التجربة" التي من الله، هي للبركة، أما التجربة التي من الداخل أي من الطبيعة الساقطة ومن الشهوة، فهي ليست من الله وهي تخدعنا، لأنها تعدنا بالتمتّع والفرح، لكن سرعان ما تهوي بنا الى الموت الروحي والحزن والمرارة والهوان، وهنا لا يقصد الشهوة الرديئة فقط بل اشتهاء كل ما يحذّرنا الرب منه، كمحبّة المال والانتقام والحسد وحبّ الظهور والذمّ.

ثم يصل الكاتب الى الاستنتاج الواضح، أنّ كل عطيّة صالحة هي من الله، لأن الله المحب لا يهب الا الخيرات، وهو لا يريدنا أن نسقط او نفشل، بل أن نكون رجالاً في الايمان. ولا يمكن لله المحبّ وقصده الصالح أن يتغيّرا أقلّ تغيير. (ارميا 11:29 / مز 18:85). لأن أبا الأنوار الذي ليس فيه ظُلمة البتّة، أي منفصل عن أي شر أو اثم، "قد شاء فولدنا بكلمة الحق" أي ولَدَ أولاداً مثله، "أنوار" لا يحبّون أعمال الظلمة، وقد تمّت الولادة بسماع كلمة الله وقبولها في القلب.

قلباً نقيّاً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدّد في داخلي (مز51: 10)

"اذاً يا اخوتي"، "اذا" تعني، أنّ ما تقدّّم، يعلّمنا أن لا نكون مسرعين في التكلّم والغضب والحكم على الأمور بل لنتروّى ونفكّر قبل أن نتكلّم(جامعة 2:5–6). لأننا بالطبيعة نحبّ أن نكثر الكلام، ونجد صعوبة بالغة في ضبط لساننا (أمثال 19:10). لكن الكاتب لا يريدنا أن نمتنع عن الكلام، بل أن نبطىء في التكلّم، أي نتكلّم عندما يكون لدينا كلام بنّاء يريدنا الرب أن نقوله، فلنقله ولا نتردّد. ثم ينبّهنا من خداع أنفسنا، ظانّين أن الغضب يصنع برّ الله!، لأن الغضب الجسدي يهين الله، مع أن الرب أحياناً يحوّل الغضب الى تمجيده، فغضب الانسان عند الصليب، حوّله الله الى خلاص وبركة(مز10:76).

ان الغضب الذي هو نتيجة للجسد وشهواته يهين الرب، اما الغضب الذي هو بسبب الشرّ ولأجل رفضه، فيمجّد الرب، كما مدح بولس أهل كورنثوس حين غضبوا بسبب الشرّ الذي في وسطهم (2كو11:7).

لذلك لنطرح، أي لنتنازل ونتخلّى عن كل نجاسة وكثرة شرّ التي في داخلنا، ولنقبل كلمة الله التي تسكن في قلوبنا، وهي قادرة أن تخلّص نفوسنا وتطهّرنا من النجاسة. يُخطيء مَن يجاهد ويحاول إخراج النجاسة من قلبه بمجهوده الذاتيّ، لأن الحلّ هو الحكم على الشرّ والاستعداد للتنازل عنه، ثم الامتلاء بالكلمة، والكلمة تنقّينا وتطهّرنا. لنخلع الانسان القديم الفاسد ونلبس الجديد المخلوق بحسب الله (أفسس 23:4). لكن علينا أوّلاً أن نعترف بالاثم، ثم نصمّم على تركه تصميماً قلبياً وجدّياً (أمثال 13:28)، ثم نشتهي كلمة الله لكي ننموا بها (1بطرس 1:2). ولكن سماع كلمة الله لا يكفي، بل ربما نخدع أنفسنا ونطمئن أننا نسمع الكلمة واننا لسنا كغير المؤمنين!، لكن علينا بالحري أن نعمل بالكلمة ونقبلها ونطبّقها على حياتنا، واذا كشفت لنا عوجاً، فلنصلحه متّضعين (مز 23:139 -24). ويشبّه يعقوب كلمة الله بالمرآة التي تعكس لنا شروراً لا نراها بأنفسنا. ومع أننا نحيا بحسب ناموس الحرية وقد خلّصنا الرب بالنعمة وأعطانا الحريّة، لكن لا ينبغي لنا ان نُصـيّـر الحرية فرصة للجسد، بل علينا أن نسمع كلمة الله ونقبلها لأنه عندها تُنتج فينا أعمال حسنة تجعل الناس تمجّد أبانا السماوي، لذا نستنتج أن كلمة الله :

1- تولدنا ثانية.

2- تخلّصنا من النجاسة وكثرة الشرّ.

3- تُظهر لنا الشرور كالمرآة.

4- تجعلنا مُكثرين ومغبوطين في الأعمال الحسنة.

" لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى" (كو3: 16)

ويكشف الكاتب لنا عن التديّن الحقيقي فيقول انه:

1- لجْم اللسان وضبْطه، لئلا يخرج من الطبيعة الساقطة فساد.

2- الأعمال الصالحة كافتقاد المحتاجين.

3- الطهارة والانفصال عن كل شبه شر وحفْظ النفس من كل دنس.

أيها الاخوة الأحباء، ان الايمان الصحيح والتعليم الكتابي السليم يوصلان حتماً الى حياة عمليّة مثمرة تمجّد الله، أما الايمان بالكلام دون عمل، فلا قيمة له أمام الله والناس.. لئلا نخدع أنفسنا وقلوبنا ونزيغ ونحن لا نعلم. فالرسول بطرس يقول "طهّروا نفوسكم في طاعة الحق" (1بط 22:1) وليس في معرفة الحق فقط. 

  • عدد الزيارات: 5305