الفصل الثاني عشر: اليقين
"كتبت هذا إليكم أنتم المؤمنين باسم إبن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية ولكي تؤمنوا باسم إبن الله" (1 يوحنا 5: 13)
أتلقى كل أسبوع مئات الرسائل يقول مراسلوها أنهم يواجهون بعض الشك والحيرة. ويرد كثير من هذه الرسائل من مسيحيين مخلصين يبدو أنهم لا يملكون الفرح واليقين لأنهم فشلوا ولم يفهموا حقيقة أساسية في الاختبار المسيحي. فلنلخص في هذا الفصل ما قلناه عن هذا الاختبار. رأينا ما معنى التوبة والإيمان والولادة الجديدة، ولكن كيف تتيقن أن هذه كلها قد حدثت لك؟ إن كثيرين ممن حادثتهم قد عرفوا التوبة، والإيمان، والولادة الجديدة، ولكن في الغالب يعوزهم التيقن من تحولهم. إن التحول- كما مرّ- يمكن أن يكون اختباراً أزمياً محدداً في ظروف معينة أو يكون عملية متدرجة تؤدي إلى لحظة حاسمة.
إياك والظن بأنك تصير مسيحياً عن طريق التثقيف الديني. قال أحد كبار الوعاظ "ينبغي علينا أن نثقف وندرب شبابنا ثقافة مسيحية إلى درجة ينسون معها متى كانوا غير مسيحيي". وما أكثر الذين يقولون قول هذا الواعظ ويشددون على أهمية التثقيف الديني وقد قصروا عن إدراك الاختبار المسيحي لأنهم أحلوا محله فكرة التدريب الديني.
في مطلع هذا القرن لاحظ الأستاذ ستاربك، وهو من قادة علم النفس، إن الذين يعملون في الحقل الديني غالباً ما يجندون من صفوف أولئك الذين عرفوا التحول بصورة واضحة، غير أنهم أناس أتوا من أوساط بسيطة لم تتوفر لهم فيها ثقافة دينية عالية. ليس هذا نقداً للتدريب الديني والثقافة الدينية بل نقد لاستعمال التدريب الديني استعمالاً زائفاً غير نزيه، بحيث يصبح بديلاً لاختبار الولادة الجديدة. قال يسوع لأحد أشد معاصريه تمسكاً بالدين "إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله"[1]. لم يكن بمقدور نيقوديموس أن يستغني عن الولادة الجديدة بمعرفته الدينية العميقة، ولا نحن نستطيع إحلال الثقافة محل الولادة الجديدة.
إن اليرقة القبيحة الشكل تقضي فترة طويلة داخل شرنقتها في نمو صامت يكاد المراقب لا يلاحظه. إن أسابيع النمو الصامت ذات أهمية، لكنها لا تستطيع أن تحل محل الاختبار الذي فيه يُطرح العتيق البشع، ويبرز الكائن الجميل الجديد. صحيح أن آلافاً من المسيحيين لا يتذكرون في أي يوم أو ساعة جاؤوا إلى المسيح، إلا أن حياتهم وإيمانهم يشهدان أنهم قد تجددوا وانتقلوا من الموت إلى الحياة.
قد لا نغالي في قولنا إن كل مسيحي تعرّض في فترات من حياته للشك والحيرة. عندما ارتقى موسى جبل سيناء ليتسلم لوحي الشريعة من يد الله، وقف العبرانيون ينظرون إليه حتى غاب عن عيونهم. ولبثوا يترقبون عودته إلى حين، لكنهم أخيراً عندما أبطأ قدومه، بدأ الشك ينهشهم فقالوا فيما بينهم " إن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه"[2]. وإن ارتدادهم كان نتيجة للشك وعدم الإيمان.
هذه الحيرة المخيفة التي تلازم نفوساً كثيرة إنما تنجم عن جهل الاختبار المسيحي الحقيقي. ويبدو أن الكثيرين لا يفهمون طبيعة الاختبار المسيحي، بينما آخرون يبحثون عما لا يطالب الكتاب المقدس بالبحث عنه.
ورد ذكر الإيمان- في علاقته بخلاص الإنسان- نيفاً وثلاثمائة مرة، كما تضمنها سياق الكلام مرات أخرى أيضاً. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين "يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه"[3]. ويقول أيضاً "أنه بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه".
كثير من المسيحيين يقعون في الحيرة والارتباك والقلق لأنهم "يخلطون" بين الإيمان والشعور. ليس المهم ما تشعر ما تؤمن به. فإن كنت حقاً تؤمن بما ورد في الكتاب المقدس فستكون في ثقة وسلام؛ وإذ ذاك فقط يتاح لك أن تقول مع بولس الرسول "إنني عالم بمن آمنت"[4]. إذا كنت قد خلصت من الخطية، فذلك بإيمانك الشخصي بإنجيل المسيح. ليس من سبيل آخر للخلاص. يقول الكتاب المقدس "إنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات لأجل خطايانا حسب الكتب. وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب"[5]. ويقول أيضاً أننا نخلص عندما نركّز إيماننا لا على الشعور أو على تصوراتٍ نسجِ خيالنا بل على حقائق راهنة ثابتة. إن عمل المسيح هو حقيقة، وصلبه حقيقة.
إننا لا نستطيع أن نؤمن بشيء غير موجود. والإنجيل لم يبرر إلى حيز الوجود لأن الناس آمنوا به، ولم يفرغ القبر في صباح الفصح لأن بعض الأتباع الأمناء قد آمنوا بذلك. لا بد أن تسبق الحقيقة الإيمان دوماً. وكذلك نحن لا نستطيع أن نؤمن إذا لم يوجد موضوع نؤمن به.
إن الكتاب المقدس لا يطلب منا الإيمان بشيء مستحيل غير معقول بل بحقيقة تاريخية تسمو في الواقع على التاريخ بجملته. إنه يدعوك لتؤمن أن عمل المسيح الذي قام به لأجل الخطيئة ولأجل الخطأة هو كفوء لكل الذين يأتمنون يسوع على نفوسهم. فإذا آمنت به وبما أتمّه من أجل خلاصك الأبدي فإنما أنت تثق بحقيقة راهنة ثابتة.
يستحيل الإيمان إذا لم يكن ثمة موضوع نؤمن به، وموضوع إيماننا هو المسيح. ليس الإيمان مجرد موافقة عقلية على مطالب المسيح بل يتناول الإرادة؛ الإيمان إرادي وهو يتطلب العمل. فإذا كنا حقيقة نؤمن بالمسيح فسوف نحيا. لكن الإيمان بدون أعمال ميت. فالإيمان يعني استسلاماً تاماً للمسيح وهو يعني أيضاً الإقرار بالخطيئة والالتفات نحو المسيح. لذلك فإننا لا نعرف المسيح بالحواس الخمس لكننا نعرفه بالحاسة السادسة التي وهبها الله لكل إنسان- وهي القدرة على الإيمان.
وأخيراً نقول أنّ جزءاً كبيراً من عدم الاستقرار الديني والحيرة، عند الباحثين الجادين المخلصين، هو ظنُّهم بأنه يجب عليهم أن يكونوا في حالة عاطفية خاصة قبل أن يتيسر لهم اختبار التحول والولادة الجديدة.
إن الذين يبحثون عن الخلاص كما يعرضه الكتاب المقدس يرغبون من غير شك أن يعرفوا نوع الاختبار الذي ينبغي لهم أن يتوقعوه. وأخص الآن بالحديث أولئك الذين ذهبوا مراراً إلى الاجتماعات حيث ينادى ببشارة الإنجيل، الذين ربما أبدوا رغبة في التحول، الذين جثوا على ركبهم بجانب جهاز المذياع أو التلفزيون حال سماعهم الدعوة إلى قبول المسيح مخلّصاً شخصياً. إلى كلٍ من هؤلاء أوجه كلامي فأقول:" لقد سمعت، يا هذا، بشرى الخلاص وعرفت أنك خاطئ محتاج إلى المخلص. فهمت الآن أن مصيرك الهلاك ما دمت على حالك، وأيقنت أن جميع الوسائل البشرية التي لجأت إليها لإصلاح ذاتك كانت باطلة فاشلة. وفي غمرة يأسك وعجزك تطلعت إلى المسيح طالباً الخلاص. آمنت أنه يقدر ويريد أن يخلصك. سمعت مراراً دعوته للخطاة "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"[6]. كما قرأت وعده القائل "من يقبل إليّ لا أخرجه خارجاً"[7]. وكذلك قرأت قوله "إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب"[8].
عندما تمعن التأمل في العهد الجديد لمعرفة نوع الاختبار الذي تتوقعه ماذا تجد؟- تجد أن هذا الاختبار إيماني لا شعوري عاطفي؛ تجد أن الإنسان "يتبرر بالإيمان" لا بالشعور، وأن الإنسان يخلص عندما يؤمن بالمسيح ويضع ثقته كلها في العمل الكفاري البديلي الذي أنجزه المسيح على الصليب، ولا يخلص مطلقاً بالمشاعر الجسدية أو بنشوة "انخطاف ديني".
وتسألني "وما هو شأن الشعور؟ أليس له دخل أو دور في الإيمان؟ بلى! ولكننا لا نخلص بواسطة الشعور. إن الشعور، في الواقع، نتيجة للإيمان لكنه بحد ذاته لا يستطيع مطلقاً أن يحقق الخلاص.
عندما أدرك جزءاً ضئيلاً من محبة المسيح لي أنا الخاطئ، فإنني أقابله حباً بحب- ومن الواضح أن الحب شعور- ولكن محبتي للمسيح تسمو على الأحاسيس التي ترافق الحب البشري. فهي محبة متحررة من كل أنانية. يقول الكتاب المقدس "المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج"[9]. وكل من يحب المسيح فله فيه ثقة تامة ترفعه وتسمو به فوق كل خوف.
عندما أدرك أن المسيح بموته وذبيحة نفسه قد أحرز نصراً تاماً كاملاً على الموت والخطيئة فإنني أتحرر من خشية الموت. يقول الكتاب المقدس: "إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس. ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية"[10]. والموت المنوه عنه هنا هو نوع من الشعور أيضاً. وكذلك فإن التغلب على الخوف من هذا الموت بالجرأة والثقة هو أيضاً نوع من الشعور والاختبار. لكن ليس شعورنا بالجرأة أو الثقة هو الذي يخلصنا، بل إيماننا هو الذي يخلصنا. ليست الجرأة والشجاعة سوى نتيجة لثقتنا بالمسيح.
وشعورك بأن ضميرك مثقل بالخطية هو أيضاً اختبار يعرفه علماء النفس تحت اسم "مركب الذنب" ويسعون بشتى الوسائل إلى أقصىائه أو التغلب عليه. ولكن عندما يكون المرء تحت تبكيت من الروح القدس فلا شيء قادر أن يتغلب على هذا الشعور. وكم من مجرم سلم ذاته أخيراً لسلطات الأمن لأن وخز الضمير كان أقوى تأثيراً فيه من عذابات السجن.
يقول الكتاب المقدس أن يسوع المسيح يطهر الضمير "لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي"[11].
إن تنقية الضمير المثقل بالخطية والتحرر من وخزاته الدائمة هو اختبار أيضاً. لكن تطهير الضمير لن يخلصك بل الإيمان بالمسيح هو الذي يخلصك. وما نقاء الضمير إلا نتيجة لإيمانك بأن المسيح قد مات عنك وسفك دمه الثمين تكفيراً عن خطاياك.
وأخيراً قد يقول قائل: "إني أؤمن بما ورد في الإنجيل من حوادث تاريخية ولكنني لست مخلّصاً بعد. ربما كان ذلك صحيحاً، لأن الإيمان الذي يمنح الخلاص ذو صفة مميزة: إنه يولد الطاعة ويؤثر في الحياة ذاتها. والذين اختبروا الإيمان بالمسيح واعتمدوا عليه كلياً للخلاص ستكون فيهم رغبة قوية أن يعيشوا حياة الإيمان. ومن نتائج هذا الإيمان القداسة والتسليم التام لله.
إن كان لك أيها القارئ "إيمان عقلي" أو "إيمان تقليدي" فطلبتي إليك أن لا تعتمد على هذا أو ذاك للخلاص. سَلّم ذاتك تمام التسليم للمسيح واطلب منه الخلاص فتصبح- على حد قول كلمة الله الصادقة- من أولاد الله: " وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه" (يوحنا1: 12).
[1]- يوحنا 3: 3
[2]- خروج 32: 1
[3]- عبرانيين 11: 6
[4]- 2 تيموثاوس 1: 12
[5]-1 كورنثوس 15: 3- 4
[6]- متى 11: 28
[7]- يوحنا 6: 37
[8]- يوحنا 7: 37
[9]- 1 يوحنا 4: 18
[10]- عبرانيين 2: 14-15
[11]- عبرانيين 9: 13-14
- عدد الزيارات: 2475