Skip to main content

الاستعداد للهرب من الأهواء

وإن كان الهرب من الشهوات لا يتطلب مجهوداً شاقاً، غير أن الضعف الروحي يحول دون القيام به. ولكي نتجنب هذا الضعف، يجب القيام بأمرين هامين: الأول هو المواظبة على التغذي بأقوال الله. والثاني هو المواظبة على الصلاة – وللفائدة نتكلم على قدر ما يسمح به المجال، عن كل من هذين الموضوعين:

أولاً: التغذي بأقوال الله

ينظر بعض المسيحيين إلى دراسة أقوال الله بالاستقلال عن العلاقة معه، ولذلك يفرضون على أنفسهم وعلى غيرهم قراءة جزء منها في الصباح وآخر في المساء، كمجرد واجب من الواجبات. لكن الله لم يعطنا أقواله لكي نفرأها أو نحفظها عن ظهر قلب، حتى يكون لنا ثواب ما، كما هي الحال عند الكثيرين. بل أعطانا إياها لكي نعرف مشيئته نحونا، وأيضاً لكي نطهر بها نفوسنا من الأدران التي قد توجد فيها، حتى نستطيع الاقتراب منه والوجود في علاقة روحية حقيقية معه. ومن ثم يجب أن نواصل التأمل في أقواله حتى تؤثر في نفوسنا وتقودنا إلى هذه الغاية الكريمة.

ولكي يأتي التأمل في أقوال الله بالثمار المطلوبة، يجب أن يكون تحت التأثر بجلالته وقداسته، كما يجب الدخول بهذه الأقوال إلى أعماق النفس والمحافظة عليها هناك في كامل قوتها. وذلك بالاجترار عليها من وقت لآخر، وتدريب النفس على التشكل بمقتضاها. ولأنها "حية وفعالة، وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح، والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته" (عبرانيين 4: 13)، تستطيع أن تسمو بحياتنا الروحية كثيراً.

ولذلك يحرضنا الرسول بالقول "لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى، وأنتم بكل حكمة معلمون ومنذرون بعضكم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة مترنمين في قلوبكم للرب" (كولوسي 3: 16). وقد أعلن الله لنا منذ القديم وجوب حفظ قلوبنا تحت تأثير كلمته، فقال لكل منا: "ولتكن هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم، على قلبك. وقصها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق، وحين تنام، وحين تقوم. واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك[1]. واكتبها على قوائم أبواب بيتك، وعلى أبوابك" (تثنية 6: 6- 9). وقد اختبر داود النبي فائدة الاحتفاظ بأقوال الله في القلب والخضوع التام لها باستمرار، فقال لله "خبأت كلامك في قلبي، لكي لا أخطئ إليك" (مزمور 119: 21).

وفيما يلي بعض أقوال الله التي يحسن بنا التغذي بها من وقت لآخر، حتى تقضي على ما فينا من أهواء كما ذكرنا، وتترك عوضاً عنها رواسب غزيرة من الطهر والقداسة.

1- آيات عن القداسة:

"أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب" (1 بطرس 2: 19).

"وهذه هي إرادة الله قداستكم. أن تمتنعوا عن الزنا. أن يعرف كل واحد منكم أن يقتني إناءه (أو بالأحرى جسده) بكرامة. لا في هوى شهوة كالأمم الذين لا يعرفون الله" (1 تسالونيكي 4: 3).

"مكملين القداسة في خوف الله" (1 كورنثوس 7: 2).

"كأولاد الطاعة، لا تشاكلوا[2] شهواتكم السابقة في جهالتكم بل نظير القدوس الذي دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة. لأنه مكتوب" كونوا قديسين لأني أنا قدوس. وإن كنتم تدعون أباً الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد فسيروا زمان غربتكم بخوف" أو بالحري بحذر شديد (1 بطرس 1: 14- 18).

"واتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عبرانيين 12: 14).

"أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم؟ إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسده الله[3]، لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو" (1 كورنثوس 3: 17).

2- آيات عن المحافظة على القلب والعين:

"يا ابني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي" (أمثال 23: 26).

"لتنظر عيناك إلى قدامك" (أمثال 4: 25).

"سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً. وإن كانت عينك شريرة، فجسدك كله يكون مظلماً. فإن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون" (متى 6: 32- 33).

"إن كانت عينك اليمنى تعثرك، فاقلعها وألقها عنك[4]. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم" (متى 5: 29).

"احفظ نفسك طاهراً" (1 تيموثاوس 4: 22).

"وفوق كل تحفظ، احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة" (أمثال 4: 13).

3- آيات عن موقفنا إزاء الأهواء:

"اهربوا من الزنا. كل خطيئة يفعلها الإنسان هي خارجة عن الجسد. لكن الذي يزني يخطئ إلى جسده" (1 كورنثوس 6: 15- 19).

"أميتوا أعضائكم[5] التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الرديئة، الطمع الذي هو عبادة الأوثان[6]" (1 كورنثوس 3: 5).

"لأن الذين هم للمسيح، قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غلاطية 5: 24).

"مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ، فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، أيمان ابن الله[7] الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية 2: 20).

"حاشى لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم" (غلاطية 6: 14).

"نحن الذين متنا[8] عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها! عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه (أي مع المسيح) ليبطل جسد الخطية، كي لا نعود نستعبد للخطية، كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن إحياء لله بالمسيح يسوع ربنا. إذن لا تملكن الخطية في جسدكم المائت[9] لكي تطيعونها في شهواته. ولا تقدموا أعضائكم آلات أثم للخطية، بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات، وأعضاءكم آلات بر لله" (رومية 2: 6- 13).

"فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كولوسي 3: 1- 2).

"كونوا كارهين الشر ملتصقين بالخير" (رومية 12: 6).

"اطرحوا كل ثقة الخطيئة المحيطة بكم بسهولة" (عبرانيين 12: 1).

"عظوا أنفسكم كل يوم ما دام الوقت يدعى اليوم، لكي لا يقسي أحد منكم بغرور الخطيئة" (عبرانيين 3: 13).

إن الآيات السابقة موجهة إلى الجنسين معاً، غير أن الوحي عند حديثه عن النساء والفتيات، يقول عنهن بصفة خاصة أنه يجب أن يكن متعقلات عفيفات ملازمات بيوتهن صالحات... (تيطس 2: 5)، وأن يلاحظن سيرتهن الطاهرة بخوف، وأن لا تكون زينتهن الزينة الخارجية من ضفر الشعر والتحلي بالذهب ولبس الثياب، بل إنسان القلب الخفي[10] في العديمة الفساد، زينة الروح الوديع الهادئ[11] الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1 بطرس 3: 2-4).

فلنعش إذن أيها الأعزاء، واضعين في نفوسنا في كل حين أن علاقتنا مع الأهواء قد انتهت (غلاطية 5: 24)، وأننا الآن مرتبطون بالمسيح في المجد كل الارتباط (أفسس 5: 30)، فنصبح من منأى من السقوط في الخطيئة بكل صورها وأنواعها.

ثانياً: الصلاة من أجل حياة القداسة

ولا نقصد بالصلاة، تلك التي تؤدي على سبيل العادة في أوقات محددة فقط، لأن صلاة مثل هذه تكون غالباً صادرة من الطبيعة البشرية، وهذه الطبيعة كما نعلم ملوثة بالكثير من النقائض. ولذلك تكون الصلاة الصادرة منها ملطخة بعيوب عدة، مثلها في ذلك مثل المياه التي لا تستطيع أن ترتفع في الأنابيب إلى مستوى أعلى من الذي هبطت منه في أول الأمر. ومن ثم فمن المحتمل أن يسقط المرء بعد هذه الصلاة في الخطيئة التي يريد تجنبها.

لكن الصلاة التي ترقى بنا إلى الله وتجلب لنا بركاته وعطاياه، حافظة إيانا في حالة القداسة، تتميز بالمميزات الآتية..

1- أن تكون باسم المسيح له المجد:

إن الله في قداسته المطلقة ينسب إلى الملائكة (الأطهار في أعيينا) حماقة. كما أن السماء (التي لا نرى فيها عيباً ما) ليست بطاهرة قدامه (أيوب 4: 18، 15: 15). ومن ثم فإن الإنسان لا يستطيع من تلقاء ذاته أن يدنو من الله (لأنه مهما بلغ أسمى درجات التقوى حسب الظاهر، فباطنه يجيش بميول لا تتفق مع قداسته تعالى)، وبالتالي لا يستطيع أن يحصل على شيء من بركاته وعطاياه. ولكن بفضل كفارة المسيح التي وفت مطالب العدل الإلهي إلى الأبد من نحونا، صار للمؤمنين الحقيقيين منا اليقين بالقبول التام أمام الله. فقد قال الرسول "المسيح يسوع ربنا الذي به لنا جراءة وقدوم بإيمانه عن ثقة" (أفسس 3: 13). وقال أيضاً: "فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه" (عبرانيين 4: 16). وأيضاً "فإذ لنا ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع" (عبرانيين 10: 19). ولذلك قال لنا له المجد: "الحق الحق أقول لكم أن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم" (يوحنا 16: 23).

وقد اختبر القديسون منذ القديم هذا الامتياز الثمين ولذلك قالوا: "أدع يسوع المسيح ابن الله من القلب بدون انقطاع، مع كلمة من أنفاسك، معترفاً له بخطاياك وواثقاً من غفرانها. لأن النفس التي تداوم على الدعاء بذلك الإثم العظيم، سرعان ما تصل إلى صاحب الإثم ذاته". وقالوا أيضاً: "لا تقل إني خاطئ، وليس لي الشجاعة أن أقف للصلاة... إن كل من يعتبر نفسه مرذولاً، يستمع الله إليه كما استمع للعشار". وأيضاً: "إذا سألت شيئاً من الآب السماوي في إيمان باسم يسوع المسيح، فإنه من أجل محبته لابن مسرته يستمع لك، دون أن ينظر إلى استحقاقك أو إلى خطاياك. بشرط أن يكون لك معه ثبوت وحب" (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 231، 342، 405، 101، 107).

غير أنه من الواجب أن لا يغيب عنا أن "طلب استجابة الصلاة من أجل المسيح ليس مجرد أكلشية" تختم به الصلاة لكي تحظى بالاستجابة، لأن الاعتماد على اسم المسيح في طلب استجابة الصلاة، يتطلب أولاً الخضوع له والاقتران به والتوافق في مشيئته.

2- أن تكون الصلاة بإيمان:

وهذه الصلاة لا تصدر إلا من المؤمنين الحقيقيين الذين أصبحت لهم علاقة حقيقية مع الله، بفضل كفارة المسيح. ومن ثم أصبحت لهم الثقة الكاملة في استجابته لصلاتهم كما ذكرنا. وقد سبق المسيح له المجد وحرضنا على الإيمان باستجابة الله لصلواتنا، حتى ننال ما نطلبه منه فيها، فقال: "وكل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه" (متى 21- 22). كما قال : "كلما تطلبونه حين تصلون، فآمنوا أن تنالوه، فيكون لكم" (مرقس 11: 24). وقال يوحنا الرسول: "وهذه هي الثقة التي لنا عنده، أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته، يسمع لنا" (1 يوحنا 5: 14). وقال يعقوب: "وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطى له.. ولكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة، لأن المرتاب يشبه موجاً من البحر، تخبطه الرياح وتدفعه. فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئاً من عند الرب" (يعقوب 1: 5- 7).

وقد وجه الرسول نظرنا إلى وجوب توافر الإيمان قبل الصلاة فقال: "ولكن بدون إيمان لا يمكن أرضاؤه، لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن (فعلاً) بأنه موجود، وأنه يجازي الذين يطلبونه" (عبرانيين 11: 6). كما قال: "لا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة" (عبرانيين 10: 35).

والإيمان كما نعلم، ليس مجرد اعتراف بالفم عن وجود الله، بل إنه عمل روحاني في القلب به تتقابل النفس معه وتستريح لمحبته وحنانه. الأمر الذي يجعلها تطمئن كل الاطمئنان أمامه، وتصبح مهيأة لقبول عطاياه الثمينة.

3- أن تكون الصلاة بإخلاص:

إن الإيمان الحقيقي يقودنا إلى الإخلاص في الصلاة. ويراد بالإخلاص فيها، الرغبة الصادقة في الحصول على ما تصلي لأجله. مع ما يلازم هذه الرغبة من إصرار وإلحاح للحصول عليه. وذلك كشيء لا غنى لنا عنه، وكحق من الحقوق التي أعطانا الله إياها بالنعمة لكي نتمتع بها من أجل المسيح.

ويعلن لنا يعقوب بن اسحق كيفية الإصرار على الطلب، وتعلن لنا الأرملة كيفية الإلحاح فيه. فيعقوب قال للمسيح الذي ظهر (قبل تجسده) له في هيئة ملاك[12] "لا أطلقك إن لم تباركني" (تكوين 32: 27). وقد أشار هوشع إلى هذا الإصرار، فقال عن يعقوب "وبقوته جاهد مع الله. جاهد مع الملاك وغلب(أي وأخذ البركة). بكى واسترحم" حتى أخذها (هوشع 12: 4- 5).

والأرملة كانت تلح على القاضي أن ينصفها حتى قال هذا في نفسه: "وإن كنت لا أخاف الله أو أهاب إنساناً، فإني لأجل أن هذه الأرملة تزعجني أنصفها، لئلا تأتي دائماً فتقمعني". وقد علق المسيح له المجد على هذه الحادثة فقال: "أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إله نهاراً وليلاً وهو متمهل عليهم؟ أقول لكم إنه ينصفهم سريعاً" (لوقا 18: 1- 8).

والإصرار على ما نطلبه من الرب والإلحاح في طلبه، هما الدليلان على شعورنا بالحاجة الماسة إليه. والله لا يعطينا بركة إلا إذا كان لدينا هذا الشعور، وذلك حتى نقدرها ونصونها ونتمتع فعلاً بها، إذ ليس من الصواب أن تعطى البركة لمن لا يقدرها.

4- أن تكون الصلاة بالروح القدس:

وإن كان للمؤمنين الحقيقيين صلة روحية بالله كما ذكرنا، لكن مع ذلك فإن الشقة بينهم وبين الله لا حد لها. لأنهم لا يزالون بشراً محدودي الإدراك، لا يعرفون من تلقاء أنفسهم كل ما يحتاجون إليه من الأمور الروحية، أو درجة احتياجهم إلى هذه الأمور. ولذلك إذا لم يكشف الله لهم بروحه عنها تماماً، لا يتيسر لهم معرفة مقدار احتياجهم إليها. ومن ثم قال بولس الرسول: "وكذلك الروح يعين ضعفاتنا. لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي. ولكن الروح نفسه يسفع فينا بأنات لا ينطق بها. لكن (الله) الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح. لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين" (رومية 8: 26- 27)، وقال يهوذا: "مصلين في الروح القدس" (يهوذا: 4).

وطبعاً لا يستطيع الصلاة بالروح القدس، إلا المؤمنون الحقيقيون السالكون به في حياتهم اليومية. إذ من المتعذر جداً على الذين يتصرفون منهم في أعمالهم الدنيوية حسب أفكارهم الشخصية، أن يعرفوا بسهولة قيادة الروح القدس لهم عندما يقومون بالصلاة.

5- أن تكون الصلاة بلا انقطاع:

إن حياة القداسة مقترنة بحياة الصلاة كل الاقتران، إذ لا قداسة بعيداً عن الصلة بالله. ولذلك من يريد أن يحيا حياة القداسة في كل حين، يجب عليه أن يحيا بقلبه مع الله باستمرار. وقد أعلن الوحي ضرورة الصلاة باستمرار فقال: "تعلقوا واصحوا للصلوات" (1 بطرس 4: 7). و" مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح" (أفسس 6: 18). و" صلوا بلا انقطاع" (1 تسالونيكي 5: 17). و"واظبوا على الصلاة ساهرين فيها بالشكر" (كولوسي 4: 21)، و"لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدى الله" (فيلبي 4: 6).

وقد ضرب المسيح لنا المثل الأعلى في قضاء الوقت الطويل في الصلاة، فهو مع قداسته المطلقة التي كانت تجعله في غنى عن الصلاة، لكن عند وجوده على الأرض كابن الإنسان، كان يصلي ويصلي كثيراً. فقد سجل الوحي عنه أنه كان يصعد إلى الجبل منفرداً ليصلي (متى 14: 23). ويعتزل في البراري لهذا الغرض عينه (لوقا 5: 16). كما كان يقضي الليل كله في الصلاة (لوقا 6: 12). وإذا كان الأمر كذلك، أما يجب على كل منا أن يكون شعاره "أما أنا فصلاة"، "وجعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع" كما قال داود مرة عن نفسه (مزمور 109: 4)، و(مزمور 16: 8)، أو "حي هو الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 ملوك 5: 16)، كما قال اليشع عن نفسه للدلالة على قيامه باستمرار في حضرة الله.

والصلاة بدون انقطاع لا تعوقنا عن القيام بأعمالنا الدنيوية، لأن الوجود في جو الصلاة يحفظ النفس في حالة الهدوء، الأمر الذي يمنحنا القدرة على القيام بالأعمال المذكورة على أكمل وجه.

6- أن تكون الصلاة مقترنة في بعض الأحيان بالصوم:

كثيرين يصومون، إنما قليلون هم الذين يجنون فوائده. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الغرض منه ليس مجرد إذلال النفس بالامتناع عن الطعام والشراب مدة من الزمن، بل التهيؤ لقضاء فرصة طويلة في الصلاة بكل انسحاق واتضاع ولجاجة. وربنا يسوع المسيح وإن كان في ذاته لم يكن في حاجة إلى الصوم، غير أنه عندما عاش على الأرض كابن الإنسان صام أربعين يوماً (متى 4: 2)، وصلى أيضاً كثيراً كما ذكرنا فيما سلف.

والكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يحدثنا عن ضرورة الصوم والصلاة معاً. فقد أخبرنا أن عزرا ونحميا صليا بصوم (عزرا 8: 22، نحميا 1: 4)، وأن رسل المسيح صاموا وصلوا (أعمال 13: 3، 14: 32). ومن أبرز تعاليم المسيح عن الصوم أنه يجب أن لا يتخذ وسيلة للتفاخر والتظاهر (متى 6: 16)، وأن رسله سيصومون متى رفع له المجد عنهم (متى 9: 15)، لأنهم حينئذ سيكونون في حاجة ماسة إلى الصوم. وأن الشيطان لا يخرج إلا بالصلاة والصوم (متى 17: 21).

7- أن تكون الصلاة مقترنة بالانتظار:

إن الثقة في استجابة الله لصلواتنا، تجعلنا ننتظر الحصول على ما طلبناه فيها، وإلا فإن ثقتنا هذه تكون وهمية لا حقيقية، وكلامية لا قلبية. فضلاً عن ذلك فإن الانتظار علامة على إخلاصنا في الصلاة، وشرط أساسي لحصولنا على ما طلبناه فيها. إذ أن الله في حكمته لا يعطي بركة لأشخاص لا تكون قلوبهم متفتحة له أو منتظرة لهذه البركة. ولكي نعرف شيئاً عن أهمية الانتظار، لنفرض أن فقيراً طلب منا مبلغاً من المال ليشتري طعاماً مثلاً، ولكن عوضاً عن أن ينتظر ليأخذ منا ما طلبه، أدار وجهه عنا وانصرف. فهل يكون هذا الفقير جاداً في طلبه؟ وهل يكون مهيئاً للحصول على أية معونة منا؟ طبعاً كلا وكلا. وهكذا الحال مع الذين يصلون لله دون أن ينتظروا الإجابة منه.

وقد عرف الأتقياء فائدة الانتظار أمام الله، فقال أحدهم له: "أوجه صلاتي نحوك وأنتظر" (مزمور 5: 3). وقال أيضاً: "انتظاراً انتظرت الرب، فمال إلي وسمع صراخي" (مزمور 4: 1). وقال آخر: "أما منتظرو الرب فيجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يتعبون" (أشعياء 40: 31). وإذا كان الأمر كذلك، فلندرب نفوسنا على الانتظار في حضرة الله بعد كل صلاة، لكي ننال بالإيمان ما طلبناه منه.

أخيراً نقول أن عدو الخير، لمعرفته أن الصلاة هي الطريق إلى القوة الروحية، فإنه كثيراً ما يبعث في نفوسنا بالكسل والسآمة حتى يفقدنا الشهية للصلاة. وإذا تحولنا عنه وأخذنا في القيام بها، كثيراً ما يبعث إلى نفوسنا بأفكار غريبة حتى نكف عن الصلاة، ومن ثم يجب أن نضع أمامنا في كل حين أن الصلاة أهم عمل يمكن أن نقوم به، وأنه من الواجب أن نقابلها بكل حزم وعزم. فقد قال الوحي لنا: "مجاهدين كل حين بالصلوات" (كولوسي 4: 12). وجاهدوا في الصلاة (رومية 15: 30). لأن الصلاة إذا كانت قوية، تقتل الخطيئة. أما إذا كانت ضعيفة، فإن الخطيئة (بكل أسف) تقلها.

وإذا عجزنا عن الصلاة مرة، علينا أن نردد في أذهاننا شيئاً من الآيات أو الترانيم التي نحفظها، المرة تلو المرة، حتى تتأثر قلوبنا وتتجه إلى الله بكل محبة وإخلاص وبذلك نستطيع أن نصلي الصلاة التي يرتضيها الله، والتي تعود علينا بالفائدة المرجوة.


[1] عبارتان مجازيتان يراد بهما وضع أقوال الله نصب أعيننا في كل حين.

[2] أو بالحري: لا تدعو نفوسكم تتشكل بشهواتكم السابقة.

[3] وذلك بالتأديب المرير.

[4] الخطية لا تكمن في العين، سواء أكانت اليمنى أو اليسرى. كما أنها لا تكمن في أي عضو من الأعضاء الأخرى، بل تكمن في الطبيعة البشرية ذاتها. ولذلك فقلع العين اليمنى يراد به اقتلاع أية نظرة شهوية من النفس مهما كانت عزيزة وغالية، ذلك لأن العادة جرت على الاعتزاز باليمين أكثر من اليسار.

[5] الأعضاء هنا لا يراد بها (كما يتضح من النص)، أعضاء الجسد المادية، بل الأهواء والشهوات، وذلك بوصفها من مقومات الطبيعة البشرية ومن ثم لا يراد بالآية المذكورة أعلاه قطع يد أو رجل بالسيف مثلاً، بل انتزاع كل ميل في نفوسنا، نسعى لتحقيقه بأيدينا أو أرجلنا.

[6] يوصف الطمع بهذا الوصف، لأنه الدليل على الركض وراء المال دون الله.

[7] يراد بـ "ابن الله"، "المعلن لله" أو "الله معلنا" لأنه لا يعلن الله إلا الله، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع، بالتفصيل في كتاب "الله ثالوث وحدانيته ووحدانية ثالوثه".

[8] إن المسيح بتقديم نفسه للصليب نيابة عنا، اعتبرت دينونة الخطية التي حلت به فعلاً هناك، أنها حلت شرعاً بالمؤمنين الحقيقيين في كل زمان ومكان. لذلك ترد الأفعال الخاصة بهذه الحقيقة في صيغة الماضي. ونظراً لأن هؤلاء المؤمنين حسبوا شرعاً أنهم ماتوا (أو وقعت عليهم دينونة الخطية) يجب أن يميتوا فعلاً كل أهواء الجسد، لكي يكون تصرفهم الخارجي مطابقاً لمركزهم أمام الله.

[9] يوصف الجسد بالمائت لأنه في حكم الموت.

[10] الإنسان الخفي هو الإنسان الباطن أو بالحري هو "النفس بكل ما تحويه من مشاعر وعواطف".

[11] المراد بالشطر الأخير من هذه الآية أن الزينة المطلوبة هي الروح الوديع الهادئ، الذي لا فساد فيه ولا دنس على الإطلاق.

[12] الدليل على أنه لم يكن ملاكاً عادياً أنه يدعى "الرب" أو بالحري "المسيح" قبل ظهوره في العالم. إقرأ مثلاً (تكوين 16: 13)، (قضاة 13: 16- 22). هذا مع العلم بأن كلمة "ملاك" لا تدل على طبيعة كائن ما، بل تدل على عمله. لأن معناها في كل اللغات "رسول"، والمسيح هو رسول اعترافنا (عبرانيين 3: 1)، أي "الرسول الذي نعترف به" إذ أن الله أرسله لكي يفتدينا من كل إثم، هذا العمل الذي لا يستطيع القيام به سوى المسيح (غلاطية 4: 4).

  • عدد الزيارات: 3566