لقد رُحِمتُ!
شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً
"إدواردو لابانْشي"
لمّا كنتُ فتىً في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، فتىً عاديّاً للغاية، كان هدفي أن أصير معلِّم مدرسة. ولكنَّ انقلاباً كبيراً كان حاصلاً آنذاك في حياتي. فقد كنت أرتاد الكنيسة الكاثوليكيَّة وأتقبَّل الأسرار المقدَّسة بانتظام، مواظباً على حضور القُدّاس والاعتراف المتكرِّر، ولكنَّ الطقوس التقليديَّة والصلوات بَدَت لي فارغةً. وأثار اشمئزازي الجوُّ الدينيُّ المصطنعُ وخُرافات الكثيرين من مُرتادي الكنيسة. ولمستُ الحاجةَ إلى حياةٍ روحيَّة اسمى، كما شعرتُ أيضاً بانجذابٍ نحو الأمور الأبدية. ولئن كُنت في مطلع شبابي، فقد تنبهَّتُ جيداً إلى حقيقة الموت. وكثيراً ما فكَّرتُ" هذه الأمور سوف تزول، ثُمَّ ماذا يحدث لي في الآخرة؟"
كانت الديانة الوحيدة التي عرفتُها هي ديانة كنيسةِ روما الكاثوليكيَّة. وهكذا قرَّرت أن أصير كاهناً مترهبناً، فالتحقتُ بالرهبانيَّة اليسوعيَّة. وبدا لي أنَّ رؤسائي راضون عنِّي للغاية، فسمحوا بي بنَذر النذور التي لم تكن تؤخذ إلاَّ بعد سنتين من الاختبار. وقد آتاني ذلك نوعاً من الاكتفاء، ولكنْ عليَّ الاعتراف بأنَّه كان مجرَّد اكتفاء بشريّ. ذلك أنِّي أحسستُ بأنَّني فاعلٌ أموراً تختلف عمّا يفعله سواي، وشأني شأنُ الفريسيِّ الذي وقف في الهيكل قدّام المذبح ناظراً إلى العشّار باستعلاءٍ شعرتُ بأنَّني لستُ مثل باقي الناس. فقد كُنتُ في الكنيسة الكاثوليكيَّة ومعتبَراً شخصاً سائراً نحو الكمال. وفي الواقع أنَّني كنتُ بالغَ الطّموح حتَّى طلبتُ إلحاقي بخدمةٍ إرساليَّة، إذ تراءى لي أنَّ في تلك الخدمات حياةً روحيَّةً أكثر سموّاً. وهكذا حصل أن أُرسِلتُ إلى جزيرة سيلان.
حالما وصلتُ إلى سيلان، ولم أكُن كاهِناً مرسوماً آنذاك، أُرسِلتُ للعمل في إحدى الكليّات قبل الشروع في دروسي اللاهوتيَّة. واليسوعيُّون لديهم فترةُ تدريبٍ وإعدادٍ طويلة. لكنَّني سرعان ما تردَّيتُ في هوَّة اليأس من جرّاء افتقار الإرساليّات الكاثوليكيَّة إلى الحماسة في مجال هداية الوثنيِّين إلى المسيح. وقد رأيت المرسَلِين مُنهمِكين بالتعليم في المدارس، ولفتتني كنائسُهم الفخمة، ولكنَّني رأيت قدراً قليلاً جدّاً من "التبشير" كما فهمتُه في ذلك الوقت. وقد تأكَّد لي أنَّ الجوَّ الروحيَّ يُعاني أعراض الموت.
وفي الأوانِ أُرسِلتُ إلى الهند لمتابعة دروسي اللاهوتيَّة، ثُمَّ رُسِمت كاهناً في الأخير. وخلال دراستي قابلتُ وجهاً لوجه الأديانَ الأخرى، من هندوسيَّة وبوذيَّة وإسلام، وأخذتُ أواجه تحدِّياتٍ في العُمق بشأنِ ديانتي، وأُسائل نفسي عن الفرق الجوهريّ بين المسيحيَّة وتلك الأديان. فقد كان لأتباع تلك الأديان كُتبُهم وأسفارُهم المقدَّسة، وكانت لديهم مثلٌ عُليا ووصايا خُلقيَّة حاولوا أن يعيشوا بموجبها. وكان ممكناً للهندوسيِّ أن يضع صورةً أو تمثالاً للمسيح بين آلهته الأخرى، ويبقى مع ذلك هندوسيّاً تقيّاً. فهل من فارقٍ أساسيٍّ بين هذه الأديان والمسيحيَّة، أوِ الدِّياناتُ كلُّها سواءٌ؟
نحوَ ذلك الوقت تقريباً بدأتُ أرى النُّور شيئاً فشيئاً، ولا بُدَّ لي من الإقرار بأنَّ ذلك حصل على الرغم من كوني ما زلتُ في الكنيسة الكاثوليكيَّة. وقد كُنت أُشارف الانتهاءَ من دروسي اللاهوتيَّة، على أنَّ إشراق النور عليَّ لم يكُن بكلِّ يقينٍ من جرّاء تلك الدروس، ولا كان ذلك بفضل أساتذتي، أو تأمُّلاتي، أو طاعتي للبابا. إنَّ في وسعي تأكيد ذلك. فالواسطة التي استخدمها الله في إنارتي إنما كانت قراءة كلمته المقدَّسة ودراستها. حتَّى إني، قبلَ ذلك الحين، شعرتُ في داخلي بانجذابٍ مميَّز نحو الكتاب المقدَّس بطريقةٍ لا أستطيع تفسيرها، إذ شاقتني كلمةُ الله بوصفها أمراً نقيّاً وحقيقياً يُخاطِب قلبي ويُمكنني فهمُه، أمراً يتعدَّى كونَه مجرَّدَ كلامٍ رواه البشر. فعكفتُ آنذاك على قراءة الكتاب المقدَّس ودراسته عن كثب، وإذ فعلتُ ذلك بدأتُ أُدرك أنَّ الفارق الجوهريَّ بين المسيحيَّة والأديان الأخرى لا يكمن أساساً في الوصايا والعقائد بل في شخص يسوع المسيح. ومن ثَمَّ أخذت أتمعَّن في ما يقوله الكتاب المقدَّس عنِ المسيح وعن عمله الكفّاري، وفيما أنا فاعلٌ ذلك أخذت أتمثَّله حيّاً أكثرَ فأكثر. وبالتدريج بدأ المسيح يصير كالشمس، آخِذاً في الإشراق شيئاً فشيئاً على أُفق حياتي. فعلى الرغم من كوني ما أزال أُراعي حينذاك كثيراً من العقائد الكاثوليكيَّة، كان أمرٌ عجيبٌ يحصلٌ لي.
بعد رسامتي أُرسِلتُ ثانيةً إلى سيلان عام 1964، كاهناً هذه المرّة، وفي ذلك الحين بُعِثتُ إلى مدينة في وسط الجزيرة لتقديم سلسلة محاضرات عن الكتاب المقدَّس لبعض متعلِّمي الدِّين الكاثوليك، إذ عرف رؤسائي باهتمامي بالكتاب وبدراستي له دراسةً خاصَّة. وفي سياق إحدى تلك الزيارات دخلت الكنيسة الإنجيليَّة في المدينة. وكنتُ قد رأيت تلك الكنيسة الصغيرة بالطبع في ما مضى، إلاَّ أنَّني احتقرتُها دائماً. وقد كان على مقربة منها كنيسةٌ كاثوليكيَّة فخمة، ممّا جعلني أفكِّر: "ما يظنُّ هؤلاء البروتستانت الضِّئال أنَّهم قادرون أن يفعلوا؟" ولكنْ في ذلك اليوم بالذات دفعني حافزٌ خفيٌّ إلى دخولِ الكنيسة الصغيرة. لعلَّ الحركة المسكونيَّة الجديدة هي ما جعلني أشعر بأنَّ علينا الآن أن نكون ودودين ولُطَفاء تجاه "إخوتنا المنفصِلين". وكان جليّاً أنَّهم فوجئُوا برؤيتي داخلاً، إلاَّ أنَّهم استقبلوني بترحاب وقدَّموا إليَّ بعض الكُرّاسات والمطبوعات. وما استطعتُ إلاَّ أن أتأثَّر بحماسة أولئك القوم وتكريسهم. كان بعضُهم مرسلين سويديِّين، وبعضُهم مؤمنين سيلانيِّين وعُمّالاً. وكانوا يقومون بحملة تبشيريَّة، موزِّعين النُّبَذ والدَّعوات في الشوارع، كما كان حتّى الأولادُ بينهم يُساعدون بحماسةٍ في تلك المهمَّة. ولم أكُن قد رأيت في الكنيسة الكاثوليكيَّة مثل تلك الحماسة. وقد تبيَّن لي أيضاً أنَّهم يُحاولون أن يَهدوني إلى إيمانهم.
ومن المطبوعات التي أعطَوني إيّاها، استحوذَت واحدةٌ على اهتمامي الشديد. وكانت مجلَّةً تأمُّلية تُدعى "بشير مجيء الربّ"، وهي الآن تُطبَع في بضع لُغاتٍ، بينها نسخة إيطاليَّة تصدر في روما. وقد ركَّزت مقالات هذه المجلَّة دائماً على الولادة الجديدة، وتسليمِ النفس شخصيّاً للمسيح، وعلى حياةٍ جديدة يعيشها المرء بالشركة معه. وكنتُ مُطَّلِعاً نظريّاً على مثل هذه الأمور، إلاَّ أنَّها بدت لي في تلك المجلَّة نابضةً بالحياة وواقعيَّةً وشخصيَّة. فقلتُ لنفسي: "ذلك هو لُبُّ الإنجيل بالحقيقة، وهو ما ينبغي أن تدور البشارة حوله!" وواظبتُ على لقاء أولئك الإنجيليين في بضع مناسبات، وقد أعطَوني نُبذاً وكراريس تبشيريَّة أُخرى أصدرَت بعضَها "إرساليّةُ الأسفار المقدَّسة المجّانيَّةِ"، فضلاً عن أعداد لاحقة من مجلَّة "بشير مجيء الربّ". وأسهمت تلك المطبوعات في تقريبي من الربّ. ثُمَّ عُدتُ إلى الهند بضعةَ أشهر لإكمال دراساتي اللاهوتيَّة، حيث كان لي اتّصالاتٌ بإنجيليِّين آخرين.
في ذلك المفصل من حياتي بدأ الربُّ يعملُ فيَّ على نحوٍ أوضح من ذي قبل. وتنامى لديَّ شعورٌ بوجوب العودة إلى أيطاليا صاحَبهُ تطوُّرٌ آخر حصل في الوقت عينه. إذ قرَّرت الحكومة السيلانيَّة أن تُغادر الإرساليّاتُ الأجنبيَّة كُلُّها البلد تدريجيّاً، ورفضت بدايةً تجديد تأشيرة الدخول إلى سيلان للموجودين خارج البلد. ولم أتمكَّن أيضاً من البقاء في الهند لأنَّ رخصة الإقامة لا تسمح لي بالبقاء هناك بعد إتمام دراستي، بما أنَّني لستُ عضواً في الكومُنوِلث. ومن ثَمَّ قرَّر رؤساؤنا أن يُعيدونا إلى بلداننا، فطُلِب إليَّ الاستعداد للعودة إلى إيطاليا. وقبل مغادرتي، كتبتُ رسالةً إلى مدير الطبعة الإيطاليَّة من "بشير مجيء الربّ" في روما، قائلاً إنَّني -بروح الحركة المسكونيَّة ورُغم كوني كاهناً كاثوليكيّاً- قد قرأتُ هذه المطبوعة فأعجبتني كثيراً، وإنَّني راغبٌ في التعاون معهم لدى عودتي إلى إيطاليا إلى الحدِّ المُمكِن والموافق لوظيفتي وخدمتي في الكهنوت.
وعند وصولي إلى إيطاليا، بعد نحو شهرين قضيتهما في مسقط رأسي "نابولي"، أرسلني رؤسائي إلى روما للتخصُّص في الكتاب المقدَّس. فقد علموا أنَّني كنتُ معنيّاً في الهند بالكتاب المقدَّس وأنَّني راغبٌ في الاستزادة. وبدا لي أنّ السلطات الكاثوليكيَّة اعتقدت أنَّ الكتاب المقدَّس قد يُشكِّل جسراً إلى الكنائس البروتستانتيَّة في سياق الحركة المسكونيَّة. وتبعاً لذلك أُرسِلتُ إلى ما كان بالفعل أعلى مؤسَّسة للكتاب المقدَّس في روما. وإدراكاً منِّي أنَّ ذلك امتيازٌ وشرف كبير، عقدتُ العزم على عدم الاتِّصال مجدَّداً بأولئك الإنجيليِّين أو البروتستانت بعد وصولي إلى روما. وما عادت لي أيَّةُ رغبة في التعاوُن معهم، ولا مع هيئة تحرير "بشير مجيء الربّ". وضعت في نيَّتي أن أنصرف آنذاك كليّاً إلى دراسة الكتاب المقدَّس وإعدادِ نفسي لخدمتي في المستقبل. فلا وقتَ عندي البتَّة لإجراء مزيدٍ من الاتِّصال بالبروتستانت.
كان ذلك بالطبع هو السببَ الذي حاولتُ التذرُّع به. ولكنْ إذ أنظر إلى الوراء الآن، أرى أنَّ السبب الحقيقيَّ هو أنَّني كنتُ أُحاول إقناع نفسي بأنَّهُ ينبغي أن أكُفَّ عنِ التواصُل مع الإنجيليِّين إذ كنتُ أعلم جيداً، في قرارة نفسي، أنَّني إنِ التقيتُهم فقد أُضطرُّ لمواجهة قرارٍ لا بدَّ منه والقيام بخطوةٍ حاسمة: الأمران اللذان أخافني حتّى مجرَّدُ التفكير بهما.
ومن ثمَّ تابعتُ دروسي، وطُلبِ إليَّ في الوقت عينه أن أُعاوِن بصفتي كاهناً في كنيسةٍ بروما، حيثُ دأبتُ في الوعظ أيام الآحاد والأعياد أمام ألف شخصٍ تقريباً. وكنتُ اسمع الاعترافات وأقوم بالأمور التي يعملُها الكاهن الكاثوليكي عادة. وفي عظاتي حاولتُ تقديم رسالة الإنجيل الصريحة؛ أمَّا في كرسيّ الاعتراف فحاولتُ إسداء المعونة والنُّصح الروحيَّيَنِ فعلاً إلى جميع المعترِفين مُحدِّثاً إيّاهم عن الولادة الجديدة. وقد شعرتُ بالمسؤوليَّة والأهميَّة المنوطتَين بتلك اللقاءات الشخصيَّة، وفكَّرتُ في أنَّه من الخير أن أُعطيَ الناس ما يأخذونه معهم ويقرأونه، فضلاً عن تحدُّثي إليهم. واتَّضح لي أنَّه ينبغي أن يتوافر كُتيِّبٌ بالإيطاليَّة البسيطة، وينبغي أن يُقدَّم إليهم مجّاناً بحيث يقبلونه بلا صعوبة. إنَّما واجهتني مشكلةٌ عمليَّة: من أين أحصل على مثل هذه الكتيِّبات؟
ثُمَّ تذكَّرتُ الكتيِّب والكراريس التي تلقيَّتُها في الهند وسيلان والصادرة عن "إرسالية الأسفار المقدّسة المجانيَّة" وسواها، وساءلتُ نفسي عن وجود شيء من ذلك بالإيطاليَّة في روما. وعندئذٍ تذكَّرتُ أنَّه كان في إحدى ساحات روما معرضُ كُتبٍ دائمٌ يعرض ويبيع كُتباً من أنواعٍ شتَّى. وتذكَّرتُ أنَّ بين مناضد الكتب واحدة يعرض عليها أخٌ مسيحيُّ مجموعةً من الكتب المقدّسة والكتب والكراريس المسيحيَّة. حتّى إذا سنحت لي أول فرصة، قصدتُ إلى تلك الساحة وتوجَّهتُ إلى المنضدة المنشودة، واستعرضتُ الكتبَ ثُمَّ سألتُ الأخَ هل لديه أيَّة كتيِّباتٍ أو نُبَذ من النَّوع المطلوب. فأجابني بالإيجاب، لكنَّه قال إنَّه لا يستطيع أن يزوِّدني بعددٍ كبيرٍ منها. إلاَّ أنَّه استدرك قائلاً: "ولكنّك تجد عند منعطف الشارع مكتبةً "إنجيليَّة، حيث يمكنك الحصول على أيَّة كميَّة واختيار ما تريد".
تردَّدتُ في الذِّهاب أول الأمر، إلاَّ أنَّني عُدتُ فذهبْت، قائلاً لنفسي: "مهما يكُن، فإنَّها مجرَّدُ مكتبة، وفي وسعي أن أدخل وأُنهي عملي ثمَّ أخرج في الحال!" وإذ دخلتُ المكتبة استقبلني المسؤول بالترحاب. وكانت هُنالك امرأةٌ عرفتُ في ما بعدُ أنَّها زوجته. وقد توافرت مجموعة جيِّدة من الكراريس، فاخترتُ مِن بينها ما اعتبرتُه مُناسباً. وبينما كان الرجل يرزم الكتيِّبات، تحادثْنا قليلاً وذكرتُ أنَّي كنتُ مرسلاً في الهند وسيلان.
ثُمَّ لاحظتُ أنَّ شيئاً غريباً بدا حاصلاً إذ ذاك. فقد أخذ الرجل وزوجته ينظران إليَّ أولاً، ثُمَّ بعضُهما إلى بعض. وتبادلا النظرات وبعض الكلمات، فخُيِّل إليَّ أنَّ ثمّة سوءاً ما ذا علاقةٍ بثوبي الأسود، أي ردائي الكهنوتيّ. ثمَّ سألني الرجل: "بالمناسبة، ما اسمك؟" فأجبته "اسمي إدواردو لا بانْشي!" فقال: "آهَه، إذا أنت هوالرجل. وسألتُ نفسي: "ماذا يعني بقوله إنِّي أنا الرَّجُل؟ إنَّني لا أعرف هذين الإنسانين، وعنوانُهما مجهولٌ عندي تماماً!"
ولكنْ ما لبث التفسيرُ أن حصل. وما كان أعجبه! إذ سألني الرجل: "هل سبق أن كتبتَ رسالةً إلى مدير تحرير "بشير مجيء الربّ" هُنا في روما؟" فقلت: "نَعَم، كتبت!" وأنا اُفكِّر: "لا يُعقَل أن يكون هذا هو مدير تحرير المجلَّة، فهو لا يبدو مديراً، وليست هذه مكاتب دار نشر، ولا إلى هذا العنوان أرسلتُ رسالتي!" وكأنَّما كان يقرأ أفكاري، تابع الرجل: "لقد وصلت رسالتك إلى هنا. فالمدير هو الممثِّل الرسميُّ للمجلَّة، وهو أيضاً أشبه بمدير عامّ لعدَّة أمور أُخرى، ولكنَّنا بالفعل نطبع المجلَّة هُنا. وأنا المحرِّر، وهذه رسالتك!" ثُمَّ أراني الرسالة فعلاً، وقال: "ها أنت تقول هُنا إنّك مستعدٌّ للتعاون معنا!"
أظنُّ أنَّ في حياتنا لحظاتٍ فيها نشعر كما لو كان الله يحشرنا في زاوية. وقد كان هذا القاء، في جانبٍ من جوانبه، مجرَّد حصيلةٍ لأحداثٍ بشريَّة متعاقبة. ولكنَّني في تلك اللحظة شعرتُ بأنَّ أمراً غير مألوف قد حدث في حياتي. إذ شعرتُ أنَّ الله أراد لي أن أحتكَّ بأولئك القوم. ومن ذلك اليوم فصاعداً أخذتُ أُقابل باستمرار الأصدقاء المتواجدين في المكتبة التي كانت أيضاً مكتبَ إدارةٍ "لمركز الخدمة المسيحيَّة" حيثُ تُتابع أنشطةٌ تبشيريَّةٌ شتَّى. وقد دعَوني أيضاً، بمنتهي اللطف، إلى اجتماعاتهم التي تُقام في البيوت، فبتُّ أحضرها بانتظام، وتعرَّفتُ بمؤمنين آخرين. وأغنى ذلك اختباري الروحيَّ الخاصَّ كثيراً، إنَّما الأهمُّ من ذلك بعدُ أنَّهم بدأوا يصلُّون لأجلي، لا في إيطاليا فقط بل في بريطانيا أيضاً. فإذ كان لهم أصدقاء في كلِّ مكان، وصلهم خبرٌ بأنَّ كاهناً كاثوليكيّاً يجتمع معهم في مركزهم بِروما، وطُلِبت الصلاة في ذلك.
حتّى إذا حلَّ العام 1966، كنتُ قد أصبحتُ إنجيليّاً في قلبي وعقلي، أو بالأحري: كان المسيح قد بدأ يصير، أكثر فأكثر هو أساسَ لحياتي. وأخذتُ أنبذ جميع تلك التعاليم والممارسات الكاثوليكيَّة التي لا علاقة لها بالإنجيل أو ذات العلاقة الضئيلة جدّاً به. وفي الوقت نفسه كنتُ أُسهِم في ترجمة مقالاتٍ لمجلَّة "بشير مجيء الربّ" بالإيطاليَّة، لكنَّني لم أكُن قد وصلتُ نهاية المطاف في اهتدائي. آنذاكَ كان المجمع الفاتيكاني تحت الأضواء، والحديثُ عن الحركة المسكونية آخِذاً في التزايُد، ففكَّرتُ قائلاً لنفسي: "لماذا أترك الكنيسة الكاثوليكيَّة، ما دُمنا الآن بعضُنا مثل بعض عمليّاً" سوف نتلاقى جميعاً، ويُمكِنني الآن أن أعمل في الكنيسة الكاثوليكيَّة على نشر الإنجيل وأنا ما أزال تابعاً لها". تلك كانت فكرتي، ولكنْ بعد حين خاب أملي كثيراً بالمجمع الفاتيكانيِّ والحركة المسكونيَّة، فساءلتُ نفسي عمّا أفعل. لقد كان وضعي، كما ترى، صعباً للغاية. فلم أكن ما يدعوه الكاثوليك علمانيّاً عاديّاً، بل كنتُ كاهناً مرسوماً، أنتمي إلى أكبر رهبنة في الكنيسة الكاثوليكيَّة. وقد أُرسِلتُ إلى روما لأجل دراساتٍ خاصَّة، وكانت أعيُن رؤسائي عليَّ بالطبع. وفي الوقت عينه شعرت بأنَّي مُستعبَد من جرّاء النُّظُم والتعاليم الشكليَّة، فبدأت أُدرِك أنَّه يستحيل عليَّ أن أظلَّ مقيَّداً مدَّةً طويلة دون الكشف عمّا أعتقده في أعماق قلبي، ودون المساومة مع ضميري بطرقٍ كثيرة. ثُمَّ حاولتُ حيناً أن أُكيِّف نفسي تبعاً للظروف، ظنّاً منِّي بأنَّي أستطيع أن أُحسِن عملاً ببقائي حيثُ كنت. ودأبتُ في التكلُّم عن المسيح والخلاص، مشيراً إلى مريم بوصفها قُدوةً لا غير. ولكنْ ما إن كان منصبي كاهناً يضطرُّني إلى المساومة على ما أعرف أنَّه حقّ، حتّى كنتُ أعرف أيَّ قرارٍ عليَّ أن أتَّخذ، ولكنَّني مع ذلك كُنت أُحاول إرجاءه. ثُمَّ أراني الربُّ نفسُه أنَّه ينبغي لي أن أتصرَّف، وأن أتصرَّف في الحال. إذ تذكَّرتُ ما قاله إيليّا للشعب في الكتاب المقدس: "حتّى متى تَعرُجون بين الفرقتين؟" (1ملوك 21:18). وبالحقيقة أنَّه عند هذا الحدّ تولَّى الله زمام أمري وأيَّدني بالقوّة. وعلى الرُّغم منِّي تقريباً ذهبتُ إلى أصدقائي في المكتبة ووجدتُني أقول لهم: "لقد قرَّرتُ أن أترك الكنيسة الكاثوليكيَّة. وإن كنتم تعتقدون أنَّ عليَّ ذلك، فإنِّي أرغب في مساعدتكم بعملكم في المركز هنا بِروما". وقد فوجئ "توريو" بقراري، مع أنَّه كان يتوقَّعه منذ مدّة. وبعد بضعة أيام تركتُ رهبانيَّتي.
وأُريدُ أن أُشدِّد تشديداً بالغاً على نقطةٍ مهمَّة في ختام شهادتي هذه، ألا وهي أنَّ أهمَّ ما في قصَّتي، وقصَّةِ غيري مِمَّن ساروا في الطريق نفسه، ليس هو أنَّنا تركْنا الكنيسة الكاثوليكيَّة، أو تركْنا مؤسَّسةً أو مذهباً، بل إنَّ أهمَّ ما في الأمر هو أنَّنا وجدنا حياةً جديدة في يسوع المسيح. ولئن كان أمامي طريقٌ طويلٌ، ومع الرسول بولس أقول: "ليس أنِّي قد نلتُ، أو صرت كاملاً..". (فيلبِّي 12:3)، فقد شعرتُ أنَّني لحظةَ قبلتُ المسيح مخلصاً لي وربّاً، وهو مَن مات من أجل خطاياي، حدث شيءٌ ما في داخلي. ذلك أنَّني بدأتُ أصير -وأنَّني بالفعل صائرٌ أكثرَ فأكثرَ- خليقةً جديدة. وكنتُ قد درستُ الكتاب المقدَّس في الماضي من وجهة نظر تقنيَّة، مثلما يدرسه كثيرون فعلاً في كنيسة روما الكاثوليكيَّة، ومثلما درسه أساتذتي وزملائي في "مؤسَّسة الكتاب المقدَّس" إلاَّ أنَّه الآن قدِ اكتسب عندي معنىً جديداً: معنىً لا يتأتي من مجرَّد الدراسة البشريَّة، ولكنَّني واثقٌ كلَّ الثقة أنَّه يأتي من فوق.
وفي الواقع أنَّ حياتي كمسيحيٍّ إنجيليٍّ لم تكن سهلة، غير أنَّ الله ما انفكَّ يهديني كي أنمو روحيّاً وفي معرفة أمور الله معاً، وإن كان ذلك أحياناً من طريق التجارب القاسية. وقد مضى على زواجي السعيد أكثر من عشرين سنة، وزوجتي منهمكة أيضاً في العمل المسيحيّ. ولنا ابنةٌ تزوَّجت مؤخَّراً من شابٍّ مسيحيٍّ طيِّب.
أمّا من جهة خدمتي الحاليّة، فإنَّني أُمارس خدمة الرعاية بدوامٍ كامل في كنيسةٍ رسوليَّة، ولكنَّني أعمل أيضاً جنباً إلى جنب مع عددٍ من الكنائس والمنظّمات الإنجيليَّة. وأنا مُقيمٌ في "غروزيتُّو"، حيث أتولّى مسؤوليَّة مركز الدراسة اللاهوتيَّة الذي يهدف إلى مساعدة الناس على الإحاطة جيداً بما تُعلِّمه كلمةُ الله. ونحن نقوم بذلك من خلال دروسٍ بالمراسلة حول الكتاب المقدَّس، ومجلَّة كتابيَّة للطلاّب سمَّيناها "تأمُّلات" ومازلنا نُصدرها منذ نحوِ ستِّ سنوات. فِللّه المجد على كلِّ ما قد فعله!
(الكاهن المولود ثانيةً: إدواردو لابانْشي)
- عدد الزيارات: 2284