Skip to main content

الخاتمة: حياة يسوع المسيح تحقق المخطط الإلهي المرسوم

إننا إذ ندرس تعاليم المخلص كما ترد في الإنجيل المقدس ندرك تواً أن السيد المسيح كان قد جاء إلى عالم البشر لإتمام رسالة خاصة، وأنه عاش حياته وحقق عمله الخلاصي تبعاً لمخطط إلهي رسم مسبقاً. وكان ذلك المخطط واضحاً وجلياً أمام عينيه كما يظهر لنا منذ بدء حياته العلنية. وبالرغم من أهمية كل لحظة في حياته فإنه لم تبد عليه ملامح استعجال الأمور، إذ أنه كان لديه الوقت الكافي للقيام بجميع تفاصيل مهمته الخلاصية، كذلك لم يكن مرة واحدة فريسة للظروف، بل كان دائماً سيدها وموجهها. معارضة البشر لم تبعده عن هدفه المنشود إذ أنه سار قدماً نحو تحقيق الرسالة التي أسندها الله إليه.

لقد كانت حياة المسيح بأكملها تسير على ضرورة إنجاز ذلك المخطط الإلهي. من هنا كان قوله في مستهل سيرته العلنية "أنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله لأني لهذا قد أُرسلت" (لوقا 4: 43)، ثم "ابتدأ يعلمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل. وبعد ثلاثة أيام يقوم" (مرقس 8: 31). هذا وقد أخبر ملاك الرب بعض أتباعه بقيامة سيدهم من الموت في صبيحة ذلك الحدث قائلاً: "ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل قائلاً أنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم" (لوقا 24: 7).

في بحثنا لموضوع وجوده الأزلي السابق لتجسده أشرنا إلى التعابير التي يستعملها الإنجيل للإشارة إلى ذلك مثل "جاء" أو "أُرسل" لينجز مهمة معينة. أما بشأن إنهاء مهمته وتركه للعالم فإن ذلك كان ضرورة إلهية. والخطة الإلهية للمسيح تضمنت أحداثاً مثل رحلة المسيح الأخيرة إلى القدس ورفض زعماء الكهنة وشيوخ اليهود له، ثم خيانة يهوذا، فالقبض عليه، ومن ثم تألمه وموته على الصليب وقيامته في اليوم الثالث.

لم تكن هذه الأمور أموراً متوقعة أو سبق وأخبرت بها نبوات الأنبياء فحسب، بل إن الإنجيل عرضها جميعاً كأمور حتمية في عملية إنجاز رسالة المسيح الخلاصية. فبعد قيامته من الموت قال المسيح لتلاميذه: ".... هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في شريعة موسى والأنبياء والمزامير، حينئذٍ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب، وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يُبشر باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدئاً من أورشليم" (لوقا 24: 44-47).

إن قيام شخص يتمتع بهكذا مكانة إلهية بمهمة كهذه يتضمن في الواقع اتضاعاً في كل خطوة من خطوات تلك الرسالة. لم يتعرض المسيح للإهانة عبر الفقر والإرهاق والجوع فحسب، بل أنه اختبر مقاومة مريرة من معارضيه والسلطات الدينية المعاصرة له. واختبر المسيح ذروة الاتضاع في آلامه النهائية وموته ودفنه. وكما ذكرنا سابقاً كان قد أظهر المسيح اتضاعه بأخذه على نفسه طبيعة بشرية، مولوداً كطفل ضعيف، ومعرّضاً لكافة محدوديات وضعفات الطبيعة البشرية لثلاث وثلاثين سنة. ومع ذلك فإن رسالته توصف في الإنجيل على أساس كون كل عنصر فيها تمّ على أكمل وجه وبصورة عفوية لا يعتريها تكلف. فكل فكرة وردت للسيد المسيح للتهرب من تتميم رسالته عبر استخدام قوته الفائقة للطبيعة وربح مجد البشر، نظر إليها كتجربة ابتدعها الشيطان. لقد جاء إلى عالمنا لإتمام رسالة واحدة وصريحة وهي أن يكون كفارة عن الخطية بواسطة آلامه وموته. وكل الأمور التي قادت إلى هذا العمل الأساسي كانت قد رسمت من قبل الله بالذات ولم يقدر أي بشري أن يغيّر من مجراها.

يظهر لنا بكل جلاء أن آلام وموت المسيح كانت منجزات وانتصارات لا كوارث وفواجع. لقد حدد هو بنفسه، وليس أعداؤه، تاريخ وساعة الصلب، ومع أن عملية الصلب بدت غريبة ومذهلة لتلاميذه إلاّ أنها لم تكن سوى تتمّة لمهمة جاء للقيام بها لفتح باب جديد وثابت لملكوت من العزة والحياة.

يعكس سفر أعمال الرسل جمال السلطان والتوجيه الإلهيين عبر حياة يسوع المسيح. فعملية الصلب مع كونها أبشع شر في تاريخ البشرية أشار إليها سفر الأعمال على أساس كونها من ترتيب إلهي مسبق. نقرأ مثلاً "لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدّوس يسوع الذي مسحته، هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل، ليفعلوا كل ما سبقت فعيّنت يدك ومشورتك أن يكون" (أعمال الرسل 4: 27و28). وقد وعظ بطرس الرسول أهل القدس قائلاً: "هذا (أي يسوع) أخذتموه مسلّماًً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه" (أعمال الرسل 2: 23).

ثم لا يجب أن يفوتنا أن نلاحظ مدى السلطان العجيب الذي عبّر عنه يسوع المسيح في معرض أحاديثه. لقد كان العديد من الأنبياء الذين سبقوا مجيئه، كل واحد منهم لجأ دائماً لبدء نبوته بالقول "هكذا يقول الرب". لكن المسيح لم يلجأ إلى نفس الأسلوب، ولم يشر إلى سلطة خارجة عنه بل كان يضع نفسه في علاقة الله بشعبه ولذلك تكلم باسمه وبسلطته الشخصية النهائية. ففي الإنجيل حسب متى حيث وردت موعظة السيد المسيح على الجبل تكلم له المجد بمكانة المشرع المتسلط. وقد ذكر المسيح أوامره مراراً وتكراراً على أساس أنها جزء من شريعة الله وقال "سمعتم أنه قيل.... وأما أنا فأقول...".

اعتبر المسيح المضطهدين لأجله معادلين للأنبياء الذين اضطهدوا في سبيل الله (متى 5: 11و12)، وكذلك أعطى نفسه حق المشرع الأعلى الذي يسمح للبشر بالدخول في ملكوت السموات وقال: "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة.. فحينئذٍ أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (متى 7: 21-23). كشف البشير متى عن تفوّق المسيح على سائر معاصريه من علماء إسرائيل قائلاً: "فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة". وقد نسب المسيح لنفسه سلطة تفوق سائر الفرائض والشرائع المقدسة التي أوحى بها الله لشعبه. فدعى نفسه"... أعظم من الهيكل... ابن الإنسان هو رب السبت" (متى 12: 6) و"السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول" (متى 24: 35).

لا شك إذاً أن المسيح عرّف عن نفسه لا كمن هو في حاجة إلى خلاص بل كمخلّص.... وليس كعضو في جماعة الإيمان (أي الكنيسة) بل كرأسها... ليس كمؤمن مثالي بل كمن هو موضوع إيمان جميع المؤمنين. وهو لم يصلّ فقط بل هو من ترفع إليه الصلاة. ثم أخيراً قدّم نفسه ليس معلماً للبشر فحسب بل ربّاً وسيّداً لهم.  

  • عدد الزيارات: 4178