۱ الخطية والسبيل إلى الغفران والتمتع بالله
يجدر بنا قبل التحدث عن " طريق الخلاص" من الخطية ، أن نذكر أولا شيئا عن ماهية الخطية ، وعن الكيفية التي يمكن أن نحصل بها على الغفران والتمتع بالله ، ولذلك نقول :
أولا الخطية وماهيتها
۱ - معنى الخطية :
(أ) الخطية (من الناحية الايجابية) ليست هي عمل الشر فحسب ، كما يظن كثير من الناس ، بل إنها أيضا مجرد التفكير فيه أو الميل إليه أو التحدث به ، فقد قال الوحى " فكر الحماقة خطية" ، ( امثال ٢٤ : ٩) و " من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه "، ( متى ٥ : ۲۸ ) و " وكل من يبغض أخاه (۱) ، فهو قاتل نفس" (يوحنا ۳ : ١٥) . و " كل كلمة بطالة (٢) يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين " (متى ١٢ : ٣٦) . و " من قال يا أحمق يستوجب نار جهنم" (متی ٥ : ۲۲) . ولا غرابة في ذلك ، فهذه الأعمال تدل على انحراف نفس فاعلها عن كمال الله ، وانحراف النفس عن كمال الله هو الخطية بعينها.
ولذلك أوصانا الوحي قائلا " اطرحوا عنكم الكذب لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم ... ليرفع من بينكم كل سخط وغضب ، وكل خبث وكل مكر ، والرياء والحسد ۰۰۰ " (افسس ٤ : ۲۱ - ۳۱ ، ا بطرس ٥ : ١) ، كما نهانا عن المحاباة (يعقوب ۲ : ۱) والكبرياء (١ تيموثاوس ٦ : ۱۷) والطمع (كولوسي ٣ : ٥) وغير ذلك من النقائص قائلا لنا :" كونوا كاملين ، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل " (متى ٥: ٤٨) و "نظير القدوس الذي دعاكم ، كونوا انتم أيضا قديسين في كل سيرة" (۱ بطرس ۱ : ١٥) ، لأنه بدون القداسة لن يرى أحد الرب (عبرانيين ۱۲ : ١٤) . وقد عرف داود النبي هذه الحقيقة حق المعرفة ولذلك قال مرة لله " لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب صخرتي ووليي " (مزمور ۱۹ : ١٤)
(ب) والخطية ( من الناحية السلبية ) ، ليست هي التقصير في عمل الخير فحسب ، كما يظن كثير من الناس ، بل انها أيضا الانشغال بأمور الدنيا عن الصلة بالله وتنفيذ مشيئته في هذه الحياة ، لأن الوحي كما قال " فمن يعرف أن يعمل حسنا ولا يعمل ، فذلك خطية له "، ( يعقوب ٤ : ۱۷ ) ، قال أيضا "أن محبة العالم (أو بالأحرى الانصراف إليه ) عداوة لله " ( يعقوب ٤ : ٤ ) و"أن ط الأشرار يرجعون الى الهاوية ، كل الأمم الناسين الله " (مزمور ۹ : ۱۷) - ولا غرابة في ذلك ، فالله ليس فقط صالحا ويطلب الصلاح ، بل أيضا خالقنا وصاحب الفضل علينا ، ومن الواجب أن يكون له المقام الأول في حياتنا ، ولذلك قال الوحي لكل منا " تحب الرب الهك من كل قلبك ، ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك " (لوقا ۱۰ : ۲٥).
(ج) كما أن الخاطيء ( فى نظر الله ) ليس من يعمل خطايا كثيرة فقط ، بل ومن يعمل خطية واحدة أيضا . فقد قال الوحي : " لأن من حفظ كل الناموس ، وإنما عثر فى واحدة ، فقد صار مجرما في الكل . لأن الذى قال لا تزن ، قال أيضا لا تقتل ، فإن لم تزن ولكن قتلت ، فقد صرت متعديا الناموس " (يعقوب ۲ : ۱۰ ، ۱۱ ) ولذلك لأجل خطية واحدة طرح بعض الملائكة من السماء (۲ بطرس ۲ : ٤) ولأجل خطية واحدة طرح آدم وحواء من جنة عدن (تكوين ٣ : ٢٤) ولأجل خطية واحدة ، حرم موسى من دخول أرض كنعان (تثنية ٣٢ : ٥) . ولأجل خطية واحدة، مات حنانيا وسفيرة فى الحال (أعمال ١:٥ - ١١) فضلا عن ذلك ، فان الخطية تحسب خطية حتى اذا كان المرء لا يعلم أنها خطية ، أو لا يشعر بها عند عملها. لأن الجهل بالقانون لا يبرىء المعتدى عليه، ولأن عدم الشعور بالخطية سهو ، والسهو عن وصايا الله هو خطية ولذلك قال الوحي " ولا تقل قدام الملاك انه سهر" (جامعة ٥ : ٦) .
مما تقدم يتضح لنا أنه إذا عاش إنسان دون أى خطية إيجابية، لكن لم يعمل كل الصلاح الذي يستطيع القيام به ، يكون خاطئا. وإن عمل كل الصلاح الذي يستطيع القيام به، لكن أخطأ خطية واحدة عن طريق الجهل أو السهو، يكون خاطئا كذلك ، وإن لم يخطىء هذه الخطية مطلقا ، لكن لم يحب الله من كل قلبه ومن كل نفسه ومن كل قدرته ومن كل فكره ، يكون خاطئا أيضا - وإذا كان ذلك كذلك ، فلا عجب إذا وصف الوحي الإنسان عامة بالقول ان " تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم " (تكوين ٦ : ٥) . وان قلبه " أخدع من كل شيء وهو نجيس" (ارميا ۱۷ : ٩)٠ وان " كل الرأس مريض ، وكل القلب سقيم ، من أسفل القدم الى الرأس ليس فيه صحة ، بل جرح وأحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت " (۱) (إشعياء ٦:١) . كما وصف الناس جميعا بالقول " ليس بار ولا واحد (۲) ، ليس من يفهم ليس من يطلب الله ، الجميع زاغوا وفسدوا معا . ليس من يعمل صلاحا (۳) ، ليس ولا واحد " (رومية ٣ : ١٢ - ۱٨ ) . كما قال " لأنه لا فرق" (٤) ، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله " (رومية ۳ : ۲۲ ، ۲۳) . ولذلك صاح داود النبى مرة لله قائلا " لا تدخل في المحاكمة مع عبدك ، فإنه لن يتبرر قدامك حي " (مزمور ۱٤۳ : ۲).
٢ - خطورة الخطية :
إن الاعتقاد السائد بين معظم الناس هو ، أن من يفعل الخطية يسيء الى نفسه أو الى غيره من الناس فحسب ، لكن الحقيقة الواقعة هي أنه يسىء بها الى الله قبل كل شيء آخر ، لأن الله هو الذي نهى عنها لتعارضها مع طبيعته ومع الكمال الذى يريد أن يراه في خلائقه العاقلة . فقد قال الوحي عن الله أنه لا يطيق الإثم (اشعياء ۱: ۱۳) وإن عينيه أطهر من أن تنظرا الشر(حبقوق ۱: ۱۳) . ولذلك فإن من يفعل الخطية (علم أم لم يعلم) يرفض شريعة الله (ارميا ٦ : ١٩) وينقض عهده ( يشوع ۷ : ۱۱) ، ويتمرد على شخصه (هوشع ۱۳ : ١٦) ، ويسلبه حقوقه (ملاخى ۳ : ۱۸) ، ويفسد أمامه ( نحميا ۱: ۷)، ويحتقر اسمه وينجسه أيضا (ملاخى : ٦) ، (حزقيال ٣٦: ٢٠)
٣ - مصدر الخطية :
(أ) يتضح من الكتاب المقدس أننا جميعا ورثنا من آدم الأول طبيعته التي تميل إلى الخطية . فقد قال الوحي " بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم " (رومية ٥ : ١٢ - ٢١ ) . ولا غرابة في ذلك فخطية آدم لم تكن اصابة فى جسده حتى كانت لا تنتقل نتائجها إلينا بل كانت اصابة في نفسه بعينها . كما أن هذه الاصابة لم تكن اصابة هيئة ، بل اصابة غيرت اتجاه نفسه تغييرا كليا (إذ بعد أن كانت في براءتها لا تهوى الا خالقها ولا تعمل إلا ما يريده ، أصبحت تتجه الى الجسد والعالم وتعمل ما نهاها الله عنه) ، واصابة مثل هذه تنتقل طبعا من الأب الى أبنائه كما تنتقل العلل النفسية الخطيرة تماما .. وقد شهد داود النبي عن انتقال الخطية ( أو بالحرى الطبيعة الخاطئة ) إليه بالوراثة فقال " بالإثم صورت ، وبالخطية حبلت أمي" (مزمور ٥:٥١).
(ب) والاختبار يؤيد هذه الحقيقة كل التأييد ، فنحن نرى أنه كثيرا ما تبدو على الأطفال امارات الأنانية والكبرياء ومحبة الذات . والحسد والطمع والعناد . كما أنهم كثيرا ما يسطون على ممتلكات الغير و يتشاجرون معهم ، مدفوعين في ذلك كله بغرائز (۱) كامنة في نفوسهم، الأمر الذي يدل على أن الطبيعة الخاطئة تولد مع الانسان . كما يولد السم مع الثعبان . وكل ما هنالك أنها لا تظهر بأعمالها الشنيعة إلا إذا تهيأت لها الفرص المناسبة للظهور وطبعا لا عبرة بالقول إن تصرفات الأطفال المذكورة هى مجرد نقائص ، أو أن الأطفال لا يدركون أن تصرفاتهم هذه هى خطايا ، لأن النقائص خطايا ، وعدم إدراك الخطايا لا يقلل من كونها خطايا (٢) .
٤- سلطان الخطية على النفس :
(أ) وسلطان الخطية على النفس (كما نعلم) سلطان قاس وقد شهد بهذه الحقيقة رسول عظيم ، فقال عن نفسه قبل استثمارها الكامل لنعمة الله " أني أعلم أنه ليس ساكن فى ، أى في جسدي ، شيئ صالح لأن الارادة حاضرة عندى ، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. "لأني لست أفعل الصالح الذي أريده ، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل …. فإني أسر بناموس الله بحسب الانسان الباطن ، ولكن أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبينى الى ناموس الخطية الكائن في أعضائي." ويحي أنا الإنسان الشقي ، من ينقذني من جسد هذا الموت ؟ " (رومية ٧ : ۱۸ - ۲۲ ) .
(ب) فالإنسان لانتقال الطبيعة الخاطئة إليه بالوراثة ، وتسلطها على كيانه تبعا لذلك، لا يستطيع بمجهوده الذاتي أن يتحرر منها أو يرتقى فوقها . ولذلك نرى أنه إذا تعهد يوما بالإقلاع عن الخطية ، وبذل كل ما لديه من جهد في سبيل تنفيذ تعهده هذا ، كثيرا ما يغلب على أمره. فإن لم يفعل الخطية فى الظاهر ، فقد يفكر فيها ويشتهيها في الباطن ، ومن ثم يعود من حيث أتى . لذلك فمثل الإنسان في مقاومة الخطية مثل الماء الذي لا يستطيع من تلقاء ذاته أن يرتفع الى مستوى أعلى من المستوى الذي هبط منه في أول الأمر، كما نرى (مثلا) في تجارب الأوانى المستطرقة . أو مثل الطائر الذي يسعى الى الانطلاق نحو السماء وهو محبوس في قفصه ، فإنه مهما حاول وجاهد يرتد خائبا الى قاع القفص . والنبى الذى أدرك عجز البشر عن التحرر من الخطية من تلقاء أنفسهم بسبب ولادتهم بها ، صاح مرة قائلا " هل يغير الكوشي (۱) جلده ، أو النمر رقطه ؟! فأنتم أيضا (هل تقدرون أن تصنعوا خيرا أيها المتعلمون الشر أو بالحرى المطبوعين على الشر)؟ (ارمیا ۱۳ : ۲۳) .
٥ - نتائج الخطية :
فضلا عن أن للخطية نتائج خاصة تحل على فاعليها وعلى المجتمع الذي يعيشون فيه ، فانه بالنسبة الى قضاء الله العام ، لها النتائج الخطيرة التالية :
(أ) الموت الأدبي :
وهذا الموت هو العجز عن السلوك بالقداسة والكمال ، فقد قال الرسول عن الخطية قبل إيمانه بالمسيح ، انها خدعته وقتلته (رومية ٧ : ۱۱) ، وانها عاشت فمات هو (رومية ٧ : ٩) ، كما قال للمؤمنين عن حالتهم قبل الإيمان " وأنتم إذ كنتم أمواتا بالذنوب والخطايا " (أفسس ۲ : ۱) .
(ب) الموت الجسدى : والموت الجسدى الذى ترتعد منه فرائصنا وتخور أمامه عزائمنا ، هو النتيجة الثانية للخطية . فقد قال الله لآدم بعدما أخطأ " لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تكوين ۳ : ۱۹) (۲) .
(ج) الموت الثاني : والموت الثانى أو العذاب الأبدى هو النتيجة الثالثة للخطية . فقد قال الوحي " وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت (۱) ، الذي هو الموت الثاني" ، ( رؤيا ۲۱: ۸ ). كما قال " ويصعد دخان عذابهم إلى أبد الآبدين" (رؤيا ٢١:١٤ ) والموت الثانى (أو العذاب الأبدي) هو القصاص العادل الذي يستحقه البشر بسبب خطاياهم و إساءتهم الى الله ، لأن القصاص يكون دائما أبدا متناسبا تناسبا طرديا مع قدر الشخص المساء اليه .
مما تقدم يتضح لنا أن الخاطىء من الناحية الأدبية ليس فقط شخصا عاجزا عن السلوك بالقداسة والكمال بل انه أيضا شخص ميت بالذنوب والآثام ولذلك فإنه لا يحتاج فقط إلى وعظ و ارشاد كما يظن بعض الناس ، بل يحتاج قبل كل شيء الى حياة إلهية تسمو به الله فوق ناموس الخطية الذي يسيطر عليه ، وتجعله أهلا للتوافق مع في صفاته العلوية السامية . كما أن العقوبة التي يستحقها بسبب خطاياه ليست عقوبة هينة تظل فترة من الزمن، حتى كان من الممكن أن يتجنبها بل انها عقوبة لا نهاية لشدتها أو مدتها ، الأمر الذي بتعويض ما ، يتعذر معه على الإنسان أن يجد من تلقاء ذاته سبيلا للنجاة منها.
ثانيًا - السبيل إلى الغفران والتمتع بالله
۱ - عدم إمكانية الحصول على الغفران والتمتع بالله بواسطة الأعمال الصالحة :
(أ) بما أن الصوم والصلاة والتوبة والصدقة ومعها كل الأعمال الصالحة التي يمكن للإنسان أن يأتيها ، لا تستطيع أن ترد الى حق الله الذي أسأنا إليه بسبب خطايانا ، قدسيته وكرامته بالدرجة التي يصبح معها كأنه لم يساء إليه على الإطلاق، لأن هذه الأعمال (أولا) ليست فضلا منا نسديه إلى الله ، حتى يمكن أن تحسب تعويضا عن خطايانا بل انها واجب ان قصرنا في أدائه نكون خطاة أمام الله كما ذكرنا فيما سلف (ثانيًا) انها لصدورها من نفوس مطبوعة على الخطية ، كثيرا ما تكون ملوثة بجراثيم الفخر والتباهي .. أو البخل والتقتير ، أو الرغبة في مصلحة ذاتية كالحصول على ثواب أو النجاة من عاقب ، الأمر الذي يجردها من كل صلاح حقيقى (۱) ( ثالثًا) ، أننا مهما أكثرنا من هذه الأعمال تكون محدودة في قدرها ، بينما حق الله الذي أسأنا إليه بسبب خطايانا لا حد لقدره ، والأشياء المحدودة فى قدرها لا تستطيع أن تفي مطالب أمر لا حد لقدره. وبما أن الله لكماله المطلق لا تطغى فيه صفة على صفة أخرى، لذلك فإنه مع ما يتصف به من رحمة لا يمكن أن يصفح عن الخطاة لمجرد قيامهم بالأعمال الصالحة ، لأنها كما ذكرنا لا تحقق مطالب عدالته على الاطلاق . وقد شهد الوحي بهذه الحقيقة فقال الرب إله رحيم ورؤوف…. ولكنه لا يبرئ ابراء " ( خروج ٣٤: ٦-۷).
(ب) ومن ناحية أخرى ، بما أن الأعمال الصالحة السابق ذكرها لا تستطيع أن تقضى على الخطية الكامنة فينا ، لأنه في أثناء القيام بهذه الأعمال قد تصدر منا خطايا بالفكر والقول والعمل . وبما أن الله لكماله المطلق لا تطغى فيه صفة على صفة على صفة أخرى كما ذكرنا ، لذلك فإنه مع ما يتصف به من محبة ، لا يمكن للخطاة لمجرد قيامهم بالأعمال الصالحة أن يتمتعوا به أو يوجدوا فى حضرته ، لأن هذه الأعمال لا تجعلهم كاملين أو قديسين بالدرجة التى تتناسب معه ولذلك قال الوحي إن الشرير لا يساكن الله (مزمور ٥ : ٤) .
والحق أنه لا غرابة فى النتيجة التى وصلنا إليها ، لأننا نرى أنه إذا ارتكب إنسان جريمة يستحق بسببها حكم الإعدام ، ثم ندم بعد ذلك على جريمته كثيرا ، أو انقطع عن الطعام والشراب أمدا طويلا ، أو تعهد بعدم العودة إلى الإجرام مستقبلا ، أو أعطى كل ما يقتنيه من مال للفقراء والمساكين ، فإن هذه الأعمال مجتمعة لا تكون مبررا كافيا يدعو القاضي مهما كان رحومًا عطوفًا ، إلى العفو عنه وتبرئة ساحته .
(ج) أما الدعوى بأن القاضى مقيد بقوانين يجب أن يطبقها ، رله رؤساء يراقبون أحكامه ، لكن الله لا يتقيد بقوانين ولا يراقب عمله رؤساء ، ولذلك يمكنه أن يصفح عن الخطاة الذين يندمون على خطاياهم. ويتقدمون إليه بالصلاة والصوم والصدقة فلا يجوز الأخذ بها ، لأن الله وإن كان لا يتقيد بقوانين ولا يراقب عمله رؤساء ، لكن له كماله الذاتي الذي ينزهه عن القيام بأي عمل لا يتفق مع هذا الكمال ، ولذلك لا يمكن أن يصفح عن الخطاة أو يقربهم إليه لمجرد قيامهم بالأعمال الصالحة للأسباب السابق ذكرها.
كما أن الدعوى بأن خطايانا مهما كانت شنيعة لا تمنع الله من الصفح عنا وتقريبنا إليه ، لأن رحمته ومحبته لا حد لهما ، لا يجوز الأخذ بها أيضا ، لأنه ان كانت رحمة الله ومحبته لا حد لهما ، فإن عدالته وقداسته لا حد لهما كذلك ، اذ أن من دواعي كمال الله أن يكون عادلا بقدر ما هو رحوم ، وأن يكون قدوسا بقدر ما هو محب . ولذلك لا يمكن أن تطغى رحمته على عدالته ، أو محبته على قداسته بأي حال من الأحوال كما ذكرنا فيما سلف .
۲ - توقف " الحصول على الغفران والتمتع بالله "على تحقيق الله لمطالب عدالته وقداسته عوضا عنا :
(أ) بما أنه لا يمكن الصفح عنا وتقريبنا إلى الله إلا إذا تحققت أولا مطالب عدالته وقداسته التى لا حد لها ، وبما أنه إذا تحققت هذه المطالب فينا ، فإننا نقضي أبديتنا بعيدا عن الله فى شقاء لا نهاية له ولا تبقى أمامنا فرصة للتمتع بالغفران أو الاقتراب من الله ، لذلك ان كان هناك مجال للتمتع بهذين الإمتيازين (ومن المؤكد أن يكون هناك مجال لذلك ، لأن وجود المحبة والرحمة فى الله لا يمكن أن يكون باطلا) لا بد أن يحقق شخص فى نفس مطالب عدالة الله وقداسته عوضا عنا . ومبدأ النيابة مبدأ قانونى سليم ، فالضامن مثلا يقوم بدفع الديون نيابة عن المدينين في حالة عجزهم عن دفعها. والأب الفاضل يتحمل بنفسه نتائج أخطاء أبنائه بدلا عنهم ، والجندى الباسل يبذل نفسه عوضا عن أهله وبلاده - وليس هناك من يعترض على واحد من هؤلاء ، بل اننا جميعا نجلهم ونشيد بمحبتهم ونبلهم.
(ب) وإذا كان ذلك كذلك ، فمن يا ترى هو الشخص المحب النبيل الذي يستطيع أن يحقق عوضا عنا مطالب عدالة الله وقداسته التي لا حد لها ؟ (الجواب) بما أن الذى يحقق هذه المطالب يجب أن يكون شخصا لا حد لقدرته أو مكانته ، لأن الشخص المحدود لا يستطيع أن يحقق مطالب لا حد لها ، وبما أن الله وحده هو الذي لا حد لقدرته أو مكانته إذا لا شك أنه وحده هو الذى يستطيع أن يحقق هذه المطالب، وبذلك يكون هو النائب أو الفادى الذى نحتاج نحن جميعا إليه في أمر خلاصنا من الخطية ونتائجها - وقد شهد بهذه الحقيقة جميع أنبياء الله ورسله في العهدين القديم والجديد . ففى العهد القديم قال موسى النبى لله " ترشد برأفتك الشعب الذي فديته " (خروج ۱٥: ۱۳) . وقال داود النبى " الرب فادي نفوس عبيده " (مزمور٣٤ : ٢٢) . وقال إشعياء النبي " فادينا رب الجنود اسمه " (إشعياء ٤٧ : ٤) . وقال الله على لسان هوشع النبى " من يد الهاوية أفديهم " (هوشع ١٣: ١٤) وفي العهد الجديد قال بولس الرسول عن الله أنه " خلصنا من خطايانا " ودعانا دعوة مقدسة
(٢ تيموثاوس ۱:٩) . وقال يهوذا الرسول عنه أنه " الإله الحكيم الوحيد مخلصنا" ( يهوذا ۱ : ٢٥)، وقال بطرس الرسول إن الله يخلصنا الآن (١بطرس ۳ : ۲۱ ) . وقال يوحنا الرسول إن الله " يطهرنا من كل إثم " (١ يوحنا ۱ : ٩).
(ج) وفداء الله لنا ، أو بالحرى احتماله لنتائج خطايانا (بطريقة ما) عوضا هنا ، قبل أن يغفرها لنا ، أمر لا يختلف فيه اثنان لأننا نرى أنه إذا ساء عبد (مثلا) الى سيده إساءة شنيعة ، فإن سيده له أن يعاقبه وله أن يعفى عنه . فإن أبت نفسه أن تتحمل اساءة العبد عاقبه كما يشاء لكن إن رضيت نفسه أن تتحمل هذه الاساءة عطفا منها على العبد ، فإنه يعفو عنه . وهكذا يكون موقف الله إزاءنا ، إذا أراد أن يعاقبنا أو يعفو عنا.
( د ) والكتاب المقدس مليء بالآيات التي تدل على أن الله يعطف علينا ويحبنا محبة لا حد لها ، الأمر الذى يدل على أن تكفيره عنا بنفسه يتوافق مع علاقته بنا كل التوافق ، فقد جاء فى العهد القديم أن لذات الله هي مع بني آدم (أمثال ۸ : ۳۱)، وأن المؤمنين أعزاء ومكرمون لديه (إشعياء ٤٣ : ٤) وأنه بمحبة أبدية أحبهم ولذلك أدام لهم الرحمة (أرميا ۳۱ : ۳۰) . وأنه بمحبته ورأفته فكهم (إشعيا ٦٣: ٩) وأنه أحبهم ليس لصلاح فيهم بل أحبهم فضلا (هوشع ١٤ : ١٤)
وجاء فى العهد الجديد أن مسرة الله هي في الناس ( لوقا ۲ : ۱۳ ) . وأنه فى ذاته محبة (١ يوحنا ٤ : ٨) . ونظرا لأن المحبة لا تشع سوى محبة ، قال الوحي عن الله إنه أحب العالم بأسره ( يوحنا 3 : ١٦ ) ، أما من جهة المؤمنين فقد قال إن الله أحبهم بمحبة كثيرة (أفسس ۲ : ٤) وأن محبته لهم لا حد لها
(يوحنا ۱۳: ۱).
۲- أحقية فداء الله للبشر بنفسه : يتضح لنا مما سلف أن فداء الله لنا يتوافق مع صفاته وعلاقته بنا كل التوافق ، الأمر الذي لا يدع مجالا لأى اعتراض نزيه على قيامه تعالى بهذا الفداء ، لكن لأهمية هذه الحقيقة نستعرض فيما يلى اعتراضات المعترضين ، ثم نرد على كل منها بقدر ما يتسع المجال.
(أ) كيف نعلم أن الله يريد أن يفتدينا أو يكفر بنفسه عنا ؟ الرد : بما أن الله لم ينفذ حكم الموت فى آدم بعد سقوطه في الخطية مباشرة بل أبقاه حيا ، وبما أنه ليس من المعقول إزاء كمال الله. أن يكون قد أبقاه حيَّا لكى يلد ملايين البشر للشقاء الأبدي ، اذا فعدم قضاء الله على آدم بعد سقوطه ، دليل على أنه لا يريد هلاك البشر بل خلاصهم . وبما أن خلاصهم لا يتحقق إلا بفداء الله لهم بنفسه ، إذا فمن المؤكد أنه أراد أن يقوم بهذه المهمة منذ القديم.
(ب) إذا كان لا بد من الفداء ، فهل يعجز الله عن خلق شخص يقوم بهذه المهمة نيابة عنه ؟
الرد : بما أنه لا يستطيع فدائنا إلا الله كما ذكرنا ، وبما أنه ليس من المعقول أن يخلق الله شخصا نظيره ، لأن المخلوق يكون محدثا ، والمحدث لا يكون مثل الأزلى ، اذا ليس هناك كائن غير الله يستطيع . كما أننا لو فرضنا جدلا أن الله خلق القيام بفدائنا والتكفير عنا شخصا نظيره ليقوم بهذه المهمة ، يكون قد ظلم هذا الشخص وعاقبه بأفظع عقوبة دون ذنب جناه . أما إذا قام تعالى بفدائنا بنفسه، لا يكون قد ظلم أحدا أو قسا عليه ، بل يكون قد أظهر منتهى الرحمة والمحبة لنا ، الأمر الذي هو خليق به. .
(ج) إن افتداء الله لنا بنفسه يفرض عليه التأثر، والتأثر يدل على التغير ، والحال أن الله لا يتغير . فضلا عن ذلك ، فإن قيامه بفدائنا بنفسه لا يتفق مع عظمته وجلاله على الاطلاق.
الرد : من المعلوم لدينا أن كل علاقة بين طرفين يترتب عليها حديد تأثير فى كل منهما . وإذا كان ذلك كذلك ، فإننا إن نفينا التأثر عن الله نكون قد نفينا وجود علاقة له بنا ، وهذا ليس بصواب لا من الناحية الدينية أو العقلية . ولذلك لا ندحة من التسليم بأن الله يتأثر (على نحو ما) بسبب علاقته بنا ومحبته لنا ،غير أن تأثره بسبب هذين العاملين وما يترتب عليهما من قيامه بفدائنا ، لا يؤدى إلى حدوث تغير في ذاته ، لأنه تعالى كان يعلم كل شيء عنا قبل أن يخلقنا ولذلك من المؤكد أن رغبته في أن يفدينا بنفسه كانت لديه قبل أن يخلقنا ، أو بالحرى كانت لديه منذ الأزل الذي لا بدء له . ومن ثم فإنه عندما أخطأنا في الزمان، وتطلب الأمر أن يفتدينا بنفسه ، لم يجد عليه جديد يدعو الى حدوث تغير في ذاته أن يكون فقط قد عمل ما قصد أن يعمله أزلا . كما أن افتدائه لنا بنفسه لا يتعارض مع عظمته على الإطلاق ، لأن العظمة ليست في الكبرياء بل في الوداعة والتواضع ، وليست في الأثرة بل في الإيثار والسخاء وليست في الأنانية بل في البذل والتضحية.
(د) ما الذي يلزم الله بافتدائنا ، وهو ليس تحت التزام بأي معنى من المعاني ؟
الرد : طبعا ليس هناك شيء في الوجود يمكن أن يلزم الله بالقيام بعمل من الأعمال، لأنه ليس هناك من له أدنى نفوذ عليه ، بل إنه (أي الله) يقوم بكل عمل من أعماله بمحض اختياره ومشيئته . ولذلك من البديهي أن يكون الباعث الوحيد له على افتدائنا بنفسه ، هو كماله المطلق وتوافق جميع صفاته معا كما ذكرنا.
٤ - ظهور الله في المسيح لإعلان فدائه لنا وتأهيلنا للتمتع به إذا وضعنا أمامنا أن الله يحبنا محبة لا حد لها كما ذكرنا فيما سلف ، وأن محبة مثل هذه لا يمكن أن تجعله مفارقا لنا أو منفصلا عنا ، بل تدعه يشق لنفسه طريقا من اللامحدودية إلى المحدودية مع بقائه غير محدود في ذاته (۱)، كما تدعه يقترب منا ويعلن فداءه لنا على نحو تدركه عقولنا وتطمئن له قلوبنا ، أدركنا فى خشوع وورع أن الله لكي يقوم بهذين العملين يمكن أن يظهر لنا فى انسان (۲) خاص (يكون طبعا خاليا من الخطية خلوا تاما) ، لأن في مثل هذا الانسان يمكن أن يعلن الله ويمكن أيضا أن يكون فيه نائبا لنا ذاته بوسيلة نستطيع أن ندركه بها عنا يتحمل خطايانا بكل نتائجها . ولذلك إذا رجعنا الى الكتاب المقدس نراه يعلن لنا أن الله ظهر في الإنسان يسوع المسيح ( ١تيموثاوس : ١٦) لكى يخلصنا من خطايانا و يؤهلنا للتوافق معه والتمتع به ، فهو يسجل لنا ما يأتي :
(أولا) أن المسيح من الناحية الباطنية هو صورة الله غير المنظور (۳) (كولوسي ۱ : ١٥) وأنه " الكلمة (٤) " الذي كان في البدء عند الله ، وكان فى الوقت نفسه هو الله (٥) (يوحنا ١ : ١ - ٣). وأنه الابن (۱) الوحيد الكائن في حضن الآب منذ الأزل (يوحنا ۱ : ۱۸) ، وأنه الكائن على الكل الها مباركا الى الأبد (رومية : ٥) - وولادة المسيح من عذراء (متى ۱ : ۱۸) ، وعصمته من الخطية (يوحنا ٨ : ٤٦) وسلطانه المطلق على الطبيعة وما وراء الطبيعة (متى ٨ : ٢٦ ، يوحنا ١١ : ٤٤ - ٤٥) ، ومغفرته للخطايا (لوقا ٧ : ٤٨) ، وقبوله السجود من البشر (لوقا ٢٤ : ٥٢) ، وتنزهه عن المكان والزمان (متى ۱۸ : ۲۰) ، ومعرفته بالغيب (لوقا ٢٢ : ١٠) ، كل هذه تؤيد أنه وإن كان انسانا فى الظاهر ، إلا أنه كان في الباطن هو كلمة الله أو ابن الله ، أو بالحرى كان هو الله معلنًا وظاهرًا، كما ذكرنا.
(ثانيا) إن المسيح رضي بمحض اختياره أن يقدم نفسه كفارة عنا (۱) فقد قال عن نفسه " أنا هو الراعى الصالح والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف " (يوحنا ۱۱:۱۰) ، كما قال " إن ابن الانسان جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك (متى ۱:۱۸) وأنه " لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين " (مرقس ١٠ : ٤٥) ولذلك شهد أنبياء الله ورسله فى العهدين القديم والجديد عن المسيح أنه الفادي الذي يكفر بنفسه عن البشر مثلما شهدوا عن الله تماما . ففي العهد القديم قال إشعياء النبي عن المسيح " ويأتي الفادي الى صهيون " كما قال عنه " وهو مجروح لأجل معاصينا ، (إشعياء ٥٩ : ٢٠) مسحوق لأجل آثامنا " (إشعياء ٥٣ : ٥) . وقد أعلن يوحنا المعمدان هذه الحقيقة أيضا فقال عنه أنه " حمل الله الذى يرفع خطية العالم (يوحنا ١ : ٢٩) . وفى العهد الجديد قال بولس الرسول عن المسيح أنه بذل نفسه فدية " (١ تيموثاوس ۲ : ٦) . وإن "لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا " (افسس ۱ : ۷) . وقال بطرس الرسول للمؤمنين عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى ۰۰۰ بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح، معروفا سابقا قبل تأسيس العالم " (١ بطرس ١ : ١٥ - ٢٠).
الكفارة التي تحملها نيابة عنا بسبب خطايانا . ولذلك كان يحزن ويكتئب قبل الصليب ، كما صرخ صرخة داوية عندما كان معلقا عليه ، وقال لله " إلهي إلهي لماذا ترکتنی (۲) " ، الأمر الذى لم يفعله واحد من القديسين الشهداء الذين يقلون عنه كثيرا في الشجاعة والصبر و الاحتمال - وقد ظل على الصليب محتملا هذه الآلام حتى حقق كل مطالب عدالة الله ، لأنه لم ينزل عنه حتى قال هذه الكلمة الخالدة " قد أكمل " (يوحنا ۱۹ : ۳) . وقد تأيد صدق قوله هذا بأدلة منظورة ومحسوسة ، فقد انشق حجاب الهيكل الذي كان يفصل بين الله وبين الناس بسبب خطاياهم (متى ۲۷ : ٥۱) ، وتمام هو من بين الأموات فى اليوم الثالث (يوحنا ۲۰ : ۲۱) ، كما صعد بعد ذلك الى السماء على مرأى من شهود كثيرين (أعمال ۱ : ۹) .
(ثالثا) إن المسيح حقق أيضا مطالب قداسة الله من جهتنا لأنه أعطانا حياته الأبدية، وبهذه الحياة يمكننا أن نرتقى فوفق قصورنا الذاتي وأن نتوافق مع الله كل التوافق فقد قال عن رعيته " وأنا أعطيها حياة أبدية ، ولن تهلك الى الأبد"
(يوحنا ۱ : ۲۸) ، كما قال عن نفسه " وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل "(يوحنا ١٠ : ١٠) . وقد اختبر المؤمنون به هذه الحياة فى نفوسهم ، فقال بولس الرسول (مثلا) " لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت " (رومية ٨ : ٢ ) وقال أيضا " مع المسيح صلبت ، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ " (غلاطية ٢ : ٣٠) ، وأيضا " أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني " (فيلبي ٤ :۱۳).
وبما أن المسيح حقق مطالب عدالة الله وقداسته (أو بالحرى حققها الله فى شخصه) ، إذا لا يتطلب الأمر منا للحصول على النجاة من قصاص الخطية وتأثيرها الباطني على نفوسنا (أو بالحرى للحصول على الغفران والتمتع بالله) سوى أن نؤمن بالمسيح إيمانًا حقيقيًا ، كما سيتضح بالتفصيل فيما يلي من فصول.
_____________________________________________
(۱) " الأخ " هنا ، ليس من تربطنا به رابطة عائلية ، بل هو الرفيق في الانسانية
(۲) الكلمة البطالة لا يراد بها الكلمة البذيئة فحسب (كما يظن بعض الناس) ، بل يراد بها ما هو أدق من هذا المعنى ، اذ يراد بها الكلمة العاطلة ، أو بالحرى التى لا تعمل عملا نافعا ، لأنها مشتقة من البطالة ،،، والبطالة عدم العمل.
_____________________________________________
(۱) تعبيرات مجازية يراد بها أن الخطية ضربت أطنابها في الإنسان ، حتى أفسدت كل كيانه.
(۲) أما قول الوحى عن نوح أنه كان رجلا بارا وكاملًا في أجياله (تكوين ٦: ۹) وعن أيوب أنه كان رجلا كاملا ومستقيما يتقي الله ويحيد عن الشر(أيوب ١ : ١) ، وعن زكريا وامراته أنهما كانا بارين ( لوقا ١ : ٦ ) ، فلا يراد به أنهم كانوا بلا خطية على الإطلاق ، لأن الكتاب المقدس يسجل لكل منهم خطية خاصة (تكوين ۹: ۲۱ وأيوب : ۱ ، ۳۰ : ۱ ومتى۱ : ۱۸ - ۲۰ )، بل يراد به أنهم كانوا يحاولون ارضاء الله فى أعمالهم كما كانوا يسرعون الى تقديم الذبائح الكفارية إليه عن كل خطية يفعلونها ، كما يتضح ( مثلا ) من ( أيوب ٥:١)
(۳) الصلاح ، هو عمل الخير دون انتظار الجزاء أو ثواب ، ولذلك فانه لا يتوافر الا فى الله ( لوقا ۱۸ : ۱۹ ) .
(٤) اعتاد الناس أن يفرقوا بين إنسان وآخر، فيقولون (مثلا) إن هذا الإنسان أفضل من ذاك ، ولكن ليس هذا هو الحال في نظر الله ، لأن الكل خطاة أمامه ، إذ انه ليس هناك واحد منهم لم يفعل خطية واحدة في حياته، ومن يفعل خطية واحدة يكون خاطئا.
_____________________________________________
(۱) الغرائز في ذاتها ليست خطية . لأن الله هو الذي أودعها في الإنسان لأجل خيره وفائدته في هذه الحياة ، وإنما الخطية هي اساءة استخدام الغرائز باستعمالها في غير ما أودعها الله لأجله.
(۲) أما الاعتراض (وما ذنب البشر الذين ولدوا من آدم رغما عنهم ؟) فلا مجال له على الاطلاق ، اذ فضلا عن أنه لو كان شخص آخر قد وجد مكان آدم ، لكان قد فعل مثلما فعل آدم تماما ولأصبح كل نسله خطاة أيضا مثله ، فقد أعلن الله أنه كما انتقلت الخطية الينا دون ذنب جنيناه ، يأتى الينا الخلاص منها دون أى مجهود من جانبنا ، كما يتضح مما يلي في هذا الفصل.
_____________________________________________
(۱) الكوشى هو الزنجي أو الحبشي (۲) أما لو كان آدم قد أطاع الله، لكان الله قد حفظه من الموت والدليل على ذلك أنه كان قد وضع فى جنة عدن شجرة أطلق عليها شجرة الحياة ، وكان من خصائص هذه الشجرة أن من يأكل منها لا يموت (تكوين ۳ : ۲۲).
ويرجع السبب في ذلك ليس الى سر كامن فيها ، بل الى انها كانت رمزا الى المسيح (رؤيا ۲ : ۷) ، الذي يهب حياة أبدية لكل من يأكل روحيا منه (يوحنا ٦: ٥١) . وطبعا لم يسمع الله لآدم بالأكل من هذه الشجرة بعد سقوطه في الخطية (تكوين ۳ : ۲۲ - ۳۳) لئلا يحيا الى الأبد في خطاياه ، فيكون ذلك وبالا عظيما عليه.
____________________________________________
(۱) النار المذكورة هنا ليست نارا مادية لأن المادة (بالمعنى العام المصطلح عليه بيننا) ليس لها وجود فى الأبدية ، لكن من المؤكد أنها ستكون أكثر إيلاما من النار المادية للأسباب المذكورة أعلاه .
_____________________________________________
(۱) ولذلك قال نبي مشهور " كثوب عدة (وهو الثوب الملطخ بالأقذار والادناس) كل أعمال برنا ( وليس اعمال شرنا فحسب ) ، ( اشعيا ٦٤ : ٦ ) . وإن كانت هذه الحقيقة تبدو غريبة فى نظر بعض الناس ، لكن الذين سمت مداركهم استطاعوا أن يدركوها كما أدركها هذا النبي من قبل. فقد قال كيركجارد فيلسوف الوجودية " أن أفضل ما لدينا من أعمال ، مثل أسوأ ما لدينا منها ، يحتاج الى غفران الله ".
_____________________________________________
(۱) ولا غرابة في ذلك ، فنحن نعلم أن وجود الله مع جماعة في وقت ما ، لا يمنع وجوده مع جماعة غيرها في نفس هذا الوقت ، لأن الله لا يتحيز بحيز على الاطلاق
(۲) ولا غضاضة فى ذلك لدى الله على الإطلاق ، فالإنسان هو أقرب الخلائق وأحبهم إليه . وقد خلقه من الناحية الأدبية والروحية على صورته کشبهه
(تكوين ۱ : ۲۷) ، وجعل الملائكة خداما له (عبرانيين ١ : ١٤) كما أن آثار الإنسان فى العالم تدل على أنه أسمى من كل الكائنات عقلا وإدراكًا.
(۳) بما أنه لا يمكن أن يعلن الله اعلانا كاملا سوى الله ، لأنه غير محدود وكل ما عداه محدود ، والمحدود لا يستطيع أن يعلن غير المحدود إعلانًا كاملًا ، لذلك فالكائن الذي يدعى "صورة الله " هو الله أو الله معلنا - ومن البديهي أن تكون لله "صورة" على نحو ما ، لأنه وان كان لا حد له فى ذاته، غير أنه ليس كائنا مبهما أو غامضا ، وكل كائن غير مبهم أو غامض له " صورة" تعلنه وتظهره.
(٤) هذا اللفظ يرد في الأصل اليوناني " لوغوس" ، واللوغوس يراد به المعلن لله ، أو كما يقول الفلاسفة " العقل الإلهى المدبر للكون"
(٥) إن المسيحية مع إعلانها أن الله واحد فى ذاته ، تعلن أنه ثلاثة أقانيم هم "الأب والابن والروح القدس" الأمر الذي يدل على أنه كانت لله علاقة بينه وبين ذاته أزلا - وطبعا لولا ذلك لكانت صفات الله عاطلة أزلا ثم صارت عاملة عندما خلق الكائنات ودخل في علاقة معها ، ولكان قد تعرض للتغير والتطور تبعا لذلك، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع بالتفصيل فى كتاب " الله - بين الفلسفة المسيحية ".
(١) كلمة " ابن" في الاصطلاح " ابن الله" ، لا يراد بها المعنى الحرفي بل المعنى المجازي ، إذ يراد بها " الكائن الذي يعلن الله غير المنظور" . فقد قال الوحي " الله لم يره أحد قط . الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر " (يوحنا ۱ : ۱۸)، وقال المسيح عن نفسه " من رآني فقد رأى الآب " (يوحنا ٩:١٤). وبما أنه لا يعلن الله الا الله وحده لأنه تعالى لا نظير له على الإطلاق، لذلك فالكائن الذي يدعى "ابن الله " هو ذات الله معلنًا وظاهرًا . وهذا الاصطلاح يشبه كل الشبه الاصطلاح " ابن الانسان ، الذي يطلق أيضا على المسيح ، فإنه لا يراد به أن المسيح هو ابن رجل ما ، بل يراد به الإنسان عامة - أو بالحرى الإنسان في الحالة التي يريدها الله ، وهذه الحالة كما نعلم هي حالة التوافق الكلي معه .. وفى اللغة العربية تستعمل كلمة " ابن" بهذا المعنى تقريبا ، فنحن نقول "بنات الفكر" بمعنى (الفكر واضحا وجليا) . وهكذا الحال في اللغة العبرية فإن المراد بالاصطلاح " بنت شعبى" (أرميا ۸: ۱۱) الشعب نفسه، والمراد بالاصطلاح " ابنة متبددى" (صفنيا ١ : ١٠) تبددون أنفسهم ، ولذلك ورد فى الترجمة الانجليزية The daughter of my 'disperspersed - وقد تحدثنا عن هذا الموضوع بالتفصيل في كتاب " الله ذاته ونوع وحدانيته ".
_____________________________________________
(۱) هذا ملاحظة أن المسيح فى ذاته كان غير قابل للموت ، لأنه مع كان خاليًا من الخطية التي تجلب الموت . ولذلك قال مرة عن نفسه " ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي . لي سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضا " (يوحنا ۱۰ : ۱۸) .
(۲) لا يراد بهذه العبارة أن الله هجر المسيح ، بل يراد بها أن الله جعله يتحمل الخطية بكل شناعتها ، دون أن يقدم له معونة تخفف من شدة وطأتها عليه ، وذلك لكي تكون كفارة عن الخطية كفارة قانونية.
_____________________________________________
- عدد الزيارات: 7