الفصل الرابع: (1)"فأوثقوه" (2)"وبصقوا عليه"
"هو ذا الشرط الأساسي لإدخالنا في جمعية أصدقاء الله السرية: أن نقف مع المسيح أمام محكمة أهل العالم حتى نقبل ذات الإهانات وضروب الشتائم التي احتملها هو- سواء أكانت صادرة من ديانات العالم أو من مدنياته أو من سلطاته ومقاييسه الاصطناعية التي تقضي على الحقيقة قضاء تاماً. فنحن، بمجرد إقرارنا بعجز العالم عن إعطائنا الملكوت غير الملموس- نعلن تباعدنا عن العالم وكل متعلقاته. فالعالم طبعاً يجلس في كرسي القضاء مستعداً أن يقمع العاصي الذي لا يقبل حكمه. فجهل العالم وجبنه وكسله هي هيئة القضاة الذين يحكمون على المؤمنين كما حكموا مرة على أول بني البشر وأطهرهم وأبرعهم جمالاً".
جون كوردليير (اللاهوتي الكاثوليكي)
في كتابه "طريق الحكمة الأبدية"
كما حمل اسحق الحطب إلى جبل المريا حمل يسوع الصليب إلى جبل الجلجثة؛ وكما أوثق اسحق ووضع على المذبح أوثق يسوع كي يوضع على الصليب. يقول الكتاب "فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله بنى هناك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط اسحق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب" (تك22: 9) إن الآراء اليهودية في كتاب المشنا- أي كتاب الأحاديث اليهودية- اتجهت نحو حادثة ذبح اسحق وقدرت ما لواقعتها من الأهمية العظمى بأن جعلتها أساس التذكار السنوي العظيم لهذه الحادثة التي وقعت على جبل المريا. وإلى اليوم نرى اليهود يتلون في رأس سنتهم صلاة (العقدة) أو الربطة هذه قائلين:
"اذكر لنا أيها الرب إلهنا القسم الذي أقسمته لأبينا إبراهيم على جبل المريا واحسب لنا ربطه لابنه اسحق على المذبح عندما أخمد نار محبته الأبوية ليفعل مشيئتك بقلب كامل وهكذا فلتخمد محبتك نار غضبك علينا وبرحمتك العظمى لنا يرتد حمو غضبك عن شعبك ومدينتك وميراثك... اذكر في مراحمك اليوم لنسله ربط اسحق". ويقول الدكتور لاندسبرج "وزادت أهمية "العقدة" على مر السنين فإن كتب اليهود القديمة ملأى بالإشارة إليها وقد أضيف في الصلوات الصباحية طلب المغفرة من أجلها كما أضيفت قطعة اسمها "العقدة" إلى صلوات كل يوم من أيام التوبة بين اليهود الألمانيين".
فهل كانت هذه الصلاة مستعملة في أيام المسيح إذ كانت توثق بربُط إلى قرون المذبح (مز118: 27) كما تتلى صلوات مخصوصة عند ربط مثل هذه الذبائح؟ مهما كانت العادة المتبعة بالنسبة لذبائح الهيكل فربما خطر لبعض التلاميذ عندما رأوا يسوع يوثق في جثسيماني أن حمل الله كان يساق إلى "الذبيحة العظمى" التي كانت حادثة ربط اسحق وخلاصه رمزاً لها.
إن ثلاثة أمور من البُشراء الأربعة يشيرون إلى حادثة ربط يسوع في البستان وأمام بيلاطس إشارة خاصة متكررة. فيوحنا الحبيب مثلاً يقول عن الواقعة الأولى: ثم أن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه ومضوا به إلى حنان أولاً... وكان حنان قد أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة حيث استُهزئ بيسوع ولُطم وجهه وبُصق فيه، ثم "لما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي (مت27: 1و 2). ويقول مرقس البشير "تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله فأوثقوا يسوع ومضوا به إلى بيلاطس".
فالحادثة الأولى أن السيد الرب بسط يديه كي توثقا تحت ظلال أشجار الزيتون في جثسيماني، وأن مظهر مقاومة بطرس بضربة سيفه الطائشة كانت كافية للجند فربطوا يديه- اللتين امتدتا لشفاء ملخس- بحبال وراء ظهره و "حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا". وهكذا انتهى المنظر الأول في فاجعة تلك الليلة المريعة ولم تكن الطريق طويلة حيث سيق يسوع موثقاً إلى نفس الباب الذي كان قد خرج منه وتلاميذه بعدما أكلوا الفصح، ثم إلى بيت حنان رئيس الكهنة الأسبق ثم تركه العسكر بعدما فكوا وثاقه ومضوا إلى مراكزهم إذ لم ترد في الإنجيل أية إشارة عنهم.
اختبر يسوع أمام حنان وقيافا كل غرائز الحقد والحسد التي كان عليها "أبناء هرون الوقحون الفاسقون الخونة المتعجرفون الأدنياء". الذين ما ذكر معاصروهم أسماءهم إلا بهمس اللعنات. هنا أصابت يسوع أول لطمة؛ وبعد المحاكمة الصورية بالشهود الزور وسبق الإصرار على الحكم عليه بالموت كما نقرأ في إنجيل لوقا جنى حراس قيافا الأشرار وخدامه الأدنياء على ذلك العاجز بقساوتهم المفزعة وفظائعهم المريعة. ومع ذلك فتلك الإهانات والتعييرات واللكمات التي وقعت على شخص ذلك المتألم المنبوذ الذي كان غير مقاوم لا عاجزاً، غير مخاصم لا مقهوراً، غير يائس بل مهوباً في خضوعه التطوعي لأعلى مرامي المحبة قد أظهرت أحط دركات اثم ولعنة البشرية، ولكنها في الوقت نفسه قد أزالت ذلك الإثم وتلك اللعنة وذلك لوقوعها على شخص المسيا ابن الله.
كانت قصص تقييد الأيادي المذكورة في أسفار العهد القديم ماثلة في ذهن السيد ولكن هل كانت أيضاً ماثلة في ذهن مضطهديه؟ هل قدم شمعون يديه طواعية واختياراً عندما قيده يوسف أخوه رهينة حتى يرى أخاه بنيامين؟ أُوثق شمشون الجبار مرة تلو المرة ولكنه كان يهزأ بموثقيه كل مرة سواء كان الوثاق حبالاً جديدة أو أوتاراً طرية فإنه كان يقطعها "كما يقطع فتيل المشاقة" ولم يغلب قط حتى ترك الرب فتركه. وأوثق ارميا بحبال وألقي في جب الوحل ولكن الرب أنقذه. كذلك أنقذ رفاق دانيال الثلاثة عندما "سقطوا موثقين في وسط أتون النار المتقدة". كل هؤلاء أوثقت أياديهم ولكنها كانت أيادي بشرية أما يسوع فكان كالشخص الرابع في أتون النار "شبيه بابن الآلهة" بل ابن الله نفسه. انظر إلى يدي يسوع- إن تشارلس بيل في مقالته الشهيرة عن يد الإنسان كدليل الخالق يصف لنا تشريحها العجيب ومناسبتها الغريبة لمهارة الإنسان وتمييزه عن أعلى طبقات الحيوان ولكن من منا يستطيع أن يصف يدي يسوع (اللتين تقدر أن تقرأ عليهما لا شخصيته الكاملة فقط بل وخلقه الكامل أيضاً) فإن تلكما اليدين المربوطتين استندتا على صدر مريم الحنون في طفولته، وبهما اشتغل - كنجار- في تشذيب أنيار الثيران أو عمل المحاريث لفلاحي الناصرة، وطالما مدهما السيد الرب في شفاء البرص والعرج والعمي. إنهما يدا الرقة والعطف اللتان وضعتا على الأطفال الذين احتضنهم، بنفس هاتين اليدين المربوطتين الآن صنع الرب من التفل طيناً وطلى عيني الأعمى منذ ولادته موغراً بذلك عليه حسد وحقد أولئك الذين بقوا في عماهم الروحي بالرغم من عجائب المسيح وأعماله. بهما صنع سوط الحبال ورفعه في غيرته على بيت أبيه وطرد من الهيكل الغنم والبقر وبهما أشار إشارة النهي على الذين جعلوا بيت أبيه تجارة ومغارة لصوص. بهما قدم السيد "اللقمة" في العشاء الأخير إلى مسلّمه يهوذا الخائن. بهاتين اليدين "يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضي" أخذ منشفة واتزر بها وغسل أرجل التلاميذ حتى ورجلي يهوذا. ما أكثر ما انضمت هاتان اليدان في صلواته الانفرادية على قمم الجبال وأخيراً شبكتا في ألم صلاته الشفاعية في البستان، والآن فإنهما أوثقتا وبعد قليل تسمران على الصليب. بهاتين اليدين كسر الخبز وقدم بهما كأس الشكر قائلاً: خذوا كلوا هذا هو جسدي... اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا".
والآن كان إتمام هذه النبوة العظمى والأخيرة أن يكسر جسده ويسفك دمه الذي للعهد الجديد من أجل الخطاة. "فأوثقوا يسوع!" "يا أبتاه اغفر لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون".
لقد عرف رئيس الجند عندما شغب الشعب ضد بولس الرسول أنه لا يجوز أن يجلد "إنساناً رومانياً غير مقضي عليه... واختشى... لأنه قد قيده" (أع22: 26و 29) أما هؤلاء فلم يخافوا. لقد سمع كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن قصة تقييد يسوع هذه من شهود عيان وكتب عن الرجال والنساء الذين أُخذوا أسرى في زمانه قائلاً: "اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم". ولكن ههنا لم يكن أحد يذكر قيود يسوع؛ حتى بطرس الرسول استحى من قيوده فقال : "لست أعرفه".
لكن من الذي أوثق يدي المخلص في البستان ثم في البلاط؟ هل العسكر الروماني؟ إن كان هؤلاء فقد قاموا بالواجب كعساكر تحت الأمر. هل أضاف يهوذا لمسة الخوف هذه لجريمة خيانته الفظيعة؟ أو هل اقترح حنان ضرورة إيثاق يديه؟ فإنا نقرأ بعد ذلك هذه العبارة "وكان حنان قد أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة" هل كان بيلاطس غير مذنب لتركه هذا السجين موثقاً وجلدِه إنساناً لم يفحص قانونياً ولم يحاكم شرعاً ولم يوجد فيه عيب؟
"هوذا الإنسان"!...
هوذا الآتي بالحياة والنار والنور من السماء دون مكر أو خداع، هوذا المانح الخليقة الجديدة للإنسان والواهب أسمى هبات السماء وأعظمها، هوذا يسوع موثق اليدين.
ترى كيف خالوا وأنت المسيحْ
أراموا لزاماً موات الذبيح؟
نظرتَ إليهم فولَّى الجميع
وعادوا لقيد المسيَّا المليح
تركت السماء لمنح الحياة
فغلّوا يديك بلؤمٍ قبيح
لماذا جنحتم لفعل اللئام
أهذا الجزاء لحبي الصريح؟
لديّ مياه لكل العطاش
وزيتٌ وزاد لكل جريح
وأنتم لديكم عصير المرار
وكل صنيع عفنه يفيح
ولكن جهلتم بأني أتيتْ
لقهر الخطايا وسحق القبيح
فهيا بكأس ملاه الإله
فإني صبور وعزمي صحيح
يقول روبرت كبل "إن يسوع الناصري ما زال إلى يومنا سائراً في طرق العالم بيدين موثقتين فلا تلد الجريمة طفلاً وتدفعه كسيحاً إلى عالم الويل والشقاء ألا ويشرب من أجله المسيح ثانية من تلك الكأس؛ ولا يعثر شخص- شوهه الإثم وكاد يعميه الهوى- في أحد بيوت البغاء ألا ويكون "يهوذا اسخريوطي" آخر قد سلم سيده ثانية لقاء دراهم معدودة. ولا يجلس تلميذ في مجلس يوضع فيه اسم المسيح على المشرحة وينكره عند الحاجة ألا ويجرح المسيح ثانية جراحاً أشد وأعمق مما جرحه الرومان أو اليهود. بل لا تُرسم خطط أية خطية تعمدية ويحكم تدبيرها وتتم في أي مكان ألا ويكون صاحبها قد اعتلى صليب المسيح وطعنه في قلبه بهزء.
2"وبصقوا عليه"
و" بصقوا عليه". إن الكلمة اليونانية المستعملة هنا لأداء هذا المعنى المؤلم هي غير الكلمة المستعملة في الأناجيل الأربعة عن استعمال المسيح للتفل في شفاء المرضى أو العمي (مرقس7: 33و 8: 23ويو 9: 6). البصق أقدم وأعم أنواع الإهانات. وربما تعلم الإنسان قديماً هذه العادة الفظيعة من بعض الحيوان كالضفدع والقط أو الأفعى السامة والصل المميت.
والأمثلة في الكتاب المقدس على ذلك كثيرة. منها "فقال الرب لموسى ولو بصق أبوها بصقاً في وجهها أما كانت تخجل سبعة أيام" (عدد 12: 14) و"تتقدم امرأة أخيه إليه أمام أعين الشيوخ وتخلع نعله من رجله وتبصق في وجهه وتصرخ وتقول هكذا يُفعل بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه (تث25: 9) و "يكرهونني" يبتعدون عني وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق (أي30: 10).
وهنا لا يسعنا إلا ذكر نبوءة اشعياء عن المسيح المملوء نعمة وحقاً الذي يحتمل عار شعبه وتوبيخهم: "أعطاني السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أغيث المعيي بكلمة. يوقظ كل صباح. يوقظ لي أذناً لأسمع كالمتعلمين. السيد الرب فتح لي أذناً وأنا لم أعاند. إلى الوراء لم أرتد. بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق" (اشعياء50: 4- 6).
ألم يشر المسيح نفسه إلى هذه النبوءة عندما تنبأ بفاجعته المريعة قائلاً: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة... فيهزأون به ويجلدونه ويتفلون عليه" (مر10: 34و 35).
وهنا نرى أحط إهانة ألحقت بشخص مخلصنا المهيب. يقول ستوكر: توجد أشياء مخيفة في الإنسان، ودركات منحطة في الطبيعة البشرية لا يمكننا النظر إليها. بكمال المسيح وبره ظهرت أحط دركات اثم أعدائه. هوذا العدو في اشتباك مع يسوع: فكانت مخالب التنين في جسم السيد ونَفَسه الكريه في وجه المخلص ولا يمكننا أن نتخيل كيف كان وقع هذا العار وتأثير هذا الهزء على عقل المسيح المهوب الحساس.
من الذي اقترف هذه الفظاعة المتكررة؟ إن الإنجيل يظهر أن البادئين في ذلك كانوا جماعة كهنة اليهود وخدامهم ثم عسكر الحرس (مت26: 67و 27: 30).
حقاً أوروبا وآسيا، الشرقيون والغربيون، بصقوا بغضبهم وشدة احتقارهم في وجه المسيح المقدس "لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله". ولكن هذه الفظاعة أجريت له أولاً بواسطة خاصته الذين عرفوه جيداً وعرفوا معنى تلك الإهانة من أسفار الناموس والأنبياء.
فيا له من إعلان مؤلم عن مقدار ما تُدنّئ الخطيئة تمييزَ البشر وإدراكهم وتحط من درجة أخلاقهم. إن البصق لهْوٌ من الاحتقار، وعلى ذلك فقلوبهم المظلمة هي التي نفثت سموم غلهم. ولكن هذا المنظر الذي لا يوصف قد رُسم في كلمات قليلة كإحدى صور مبراندت المصور الشهير حيث ترى أرضية الصورة مظلمة كالليل دلالة على ظلام القلب البشري وشره المفرط وكراهته لكل ما هو طاهر وحسن.
على أنهم لم يستطيعوا أن يبصقوا على وجهه إلا بعد أو أوثقوه وغطوا وجهه. وهكذا الحال دائماً والتاريخ يمدنا بالأمثلة العديدة عن أولئك الذين بصقوا في وجه السيد أو في وجوه تلاميذه. نجد في كتاب الشهداء منتهى القساوة في المعذّبين ومنتهى الإهانة والاحتقار الذي شعر به بولس الرسول عندما كتب "صرنا كأقذار العالم ووسخ كل شيء إلى الآن". وبينما كان القديس برنارد يرنم:
"اسم يسوع قد حلا لمسمع المؤمن
يشفي جراح المبتلى والخوف يستأمن"
كان غيره يُرنمون على أن يجدفوا على اسم المسيح بواسطة عذاباتِ محكمة التفتيش وفظائع الحروب الصليبية. وكم من مرتد وملحد وكافر قد نفثوا حقدهم واستهزاءهم ضد يسوع! فإنه لا توجد عداوة أشد من عداوة المرتد. كان نيرون ظالماً في إهراقه دم المسيحيين ومع ذلك فإنه لم يظهر شيئاً من شدة الغضب التي أثارها ضد أتباع المسيح ذلك المرتد الإمبراطور يوليانوس الذي آمن بيسوع ثم أنكره. ولنا في جبون المؤرخ الشهير مَثَلٌ آخر إذ كان عضواً في الكنيسة الإنجيلية فعضواً في الكنيسة الكاثوليكية ثم هجر الثانية كما ترك الأولى. أما نيتشه فقد سقط إلى أحط دركة حتى أنه نطق بتعبيرات بذيئة عن المسيح لا يمكن وصفها إلا بالبصاق قائلاً: "إني أدعو المسيحية اللعنة الوحيدة الكبرى والضلال الداخلي الهائل بل السليقة الفريدة العظمى للأخذ بالثأر التي ليس في الوجود وسائل أكثر سماً أو أخبث خفاءً وتستراً أو أشد حقارة من وسائلها. بل إني أدعوها عيب الإنسانية وعارها الذي ليس بعده عار. فهل يمكن أن يصل الحقد البشري وبغضته إلى أبعد من هذا؟
العار روحي قطَّعا والجسم قد تمزّقا
من حقدهم وجبنهم وصلبهم تخزقا
لكن أقسى كل ذا وطعن جنبي بالمدى
إن عيروني موثقاً وسلموني للعدى
لبصقهم وهزئهم كي لا يكون في الدنا
فرد بريء في القضا فهل رأيت حزننا؟
غير أننا نلاحظ أيضاً في هذا المنظر للمسيح المهان أهمية الكراهة الشيطانية المطلقة وشعور المخلص الإنساني بالانتصار ويقينه من الغلبة. ألم يقل "طوبى لكم (أوَلم يشعر بهذا أيضاً) إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا... فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم".
هوذا الإنسان! فإن المسيح- تألم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته فإنكم "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" ذاكرين ذاك "الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً". كما قال أحد آباء الكنيسة القدماء
من هذا الذي يتألم؟
إنه المسيح كلمة الآب وحكمته
بما يتألم
بالشوك والجلد والبصق والصليب
بما أن الله يتألم هكذا
تعلم أنت أن تتألم بصبر مثله
- عدد الزيارات: 2921