الفصل الخامس: الخطية والموت
يُطلعنا الفصل الثالث من التكوين على سقوط الإنسان وعصيانه. ومن المفترض أن ذلك قد حدث بعد فترة ليست طويلة من خلْقِه، إذ ارتكب ذنب تعدي الوصية الإلهية. فالخلق والسقوط ليسا متزامنين، وينبغي ألا يُخلطا بعضهما ببعض، إذ يختلفان أحدهما عن الآخر في الطبيعة والجوهر، غير أنهما قريبان زمنياً الواحد من الآخر.
هكذا كانت الحال بالنسبة إلى الملائكة. ولا يزودنا الكتاب المقدس بخبر مفصّل في خلق الملائكة وسقوط بعضهم، بل يُطلعنا على ما نحتاج إليه من ذلك حتى نفهم الإنسان وسقوطه حق الفهم، بغض النظر عن الاسترسال في التفصيل، دون أن يورد البتة أي تلميحات من شأنها أن تُرضي فضولنا. إنما نعلم يقيناً أن الملائكة موجودون، وأن عدداً كبيراً منهم سقط، وان هذا السقوط أيضاً حدث في بداية العالم. حقاً إن البعض قد حدد وقت خلق الملائكة وسقوط بعضهم بزمنٍ أقدم كثيراً، في أثناء الزمان السابق لتكوين (1: 1)؛ غير أن الكتاب المقدس لا يُقدّم أساساً لاعتقادٍ كهذا.
يتحدث (تك 1: 1) عن عمل الخلق الكامل، ومن المحتمل أن (تك 1: 31) يشمل في ما يقوله هذا العمل بكامله لا خلْقَ الأرض وحدها، حيث نقرأ: ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسنٌ جداً. فإن صحَّ هذا، فلا بُدَّ أن يكون تمرد الملائكة وعصيانهم قد حدثا بعد اليوم السادس من أيام الخلق.
هذا من جهة؛ ومن الجهة الأخرى أنه من الثابت أن سقوط الملائكة سبق سقوط الإنسان. فالخطية لم تنفجر أول مرة على الأرض بل في السماء، في حضرة الله بالذات وعند موطئ عرشه. ففكر مقاومة الله والرغبة فيها وإرادتها نشأت أولاً في قلب بعض الملائكة. وربما كانت الكبرياء هي أم الخطايا، وبذلك كان بدءُ سقوطهم ومبدأه. ففي (1 تيموثاوس 3: 6) ينصح بولس الكنيسة ألا تختار لخدمة الأسقفية رجلاً لم يمض على دخوله إلى الإيمان زمنٌ طويل، لئلا ينتفخ تكبراً فيسقط في دينونة إبليس. فإذا كان المقصود بهذه الدينونة، تلك الدينونة التي سقط فيها إبليس لما ترفَّع أمام وجه الله، فإن لنا هنا إشارةً إلى حقيقة ابتداء الخطية في إبليس بصورة تمجيد الذات، والكبرياء.
ومهما كانت حقيقة الأمر، فإن سقوط الملائكة قد سبق سقوط الإنسان. ورُغم كل شيء، لم يصل الإنسان إلى تعدي وصية الله من تلقاء ذاته فقط، بل حُرِّض عليه. فإذ خدعت الحيةُ حواءَ وأغوتها، وقعت في التعدي (2 كورنثوس 11: 3، 1 تي 2: 14). وعلينا بكل يقين ألا نعتبر هذه الحية كأنها ظهورٌ رمزي بل إنها حية بالفعل، إذ نقرأ صراحةً أن هذه الحية كانت أحيل - أو أدهى - جميع حيوانات البرية (تكوين 3: 1؛ متى 10: 16). ولكن على مثل هذه الدرجة من اليقينية أيضاً، يأتينا الإعلان الإلهي فيما بعد بفكرة أن قوة شيطانية استخدمت الحية لتخدع الإنسان وتُغويه. إذ نقرأ في مواضيع كثيرة في العهد القديم أن الشيطان هو المشتكي على الإنسان والمجرب له (أيوب 1: 1؛ 1 أخبار الأيام 21: 1؛ زكريا 3). غير أن قوة الظلام الرهيبة تُعلن أول مرة عندما أشرق على العالم أولاً النور السماوي في المسيح. فعندئذٍ تبدى للعيان أن ثمة عالماً خاطئاً آخر غير العالم الذي هو هنا على الأرض. فإن هنالك عالمَ شرٍّ روحياً خُدامُه المطيعون شياطين لا يكاد عددها يُحصر، وأرواحُ شريرة نجسة، رئيسُها ورأسُها هو الشيطان (راجع متى 12: 45). هذا الشيطان تُطلق عليه أسماء شتى فهو ليس فقط الشيطان، أي الخصم؛ بل أيضاً إبليس، أي المجدّف؛ والشرير (متى 16: 13؛ 13: 19)، والعدو (متى 13: 39؛ لو 10: 19)، والمشتكي (رؤيا 12: 10)، والمجرِّب (متى 4: 3)، وبليعال، أي الدناءة أو التفاهة (2 كورنثوس 6: 15)، وبعلزبزل أو بعل زبوب، وهو الاسم الذي أُطلق أصلاً على إله الذباب الذي عُبد في عقرون (2 ملوك 1: 2؛ متى 10: 25)، ورئيس الشياطين (متى 9: 34)، ورئيس سلطان الهواء (أفسس 2: 2)، ورئيس هذا العالم (يوحنا 12: 31)، وإله هذا الدهر (2 كورنثوس 4: 4)، والتنين العظيم والحية القديمة (رؤيا 12: 9).
ومملكة الظلام هذه لم تكن موجودة منذ بدء الخليقة، بل برزت إلى الوجود بسقوط الشيطان وملائكته. فإن بطرس يقول عموماً إن ملائكةً أخطأوا فعاقبهم الله بالتالي (2 بطرس 2: 4)؛ ولكن يهوذا - في الآية السادسة من رسالته - يشير بأكثر تحديد إلى طبيعة خطيَّتهم يُعلن أنهم لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم في السماء. فهم لم يقنعوا بالوضع الذي وضعهم الله فيه، واشتهوا ما هو أرفع منه. هذا التمرُّد حصل عند البدء، لأن إبليس من البدء يُخطئ (1 يو 3: 8)، وكان منذ البدء يهدف إلى إفساد الإنسان. ويقول الرب يسوع صراحةً إن الشيطان كان منذ البدء قتّالاً للناس ولم يثبت في الحق لأنه كذاب (يو 8: 44).
ومن هذا الشيطان جاءت تجربة الإنسان عن طريق انتهاز الوصية التي أعطاها الله للإنسان بألا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ويشهد الرسول يعقوب أن الله منزَّه عن التجربة، وأنه لا يجرِّب أحداً بالشر. وبالطبع ليس معنى هذا أن الله لا يجرِّب إنساناً، أو يمتحنه. فالكتاب يتحدث غالباً عن حالات يفعل الله ذلك بعينه، سواءٌ في حالات كحالة كلٍ من إبراهيم وموسى وأيوب والمسيح بذاته، أو مباشرةً في حالة الإنسان الأول أي آدم. ولكن عندما يقع أحد في التجربة، فإنه يلجأ حالاً إلى إلقاء تهمة سقوطه على الله ويقول إن الله جرَّبه، أي امتحنه بقصد إسقاطه، أو أجازه في اختبارٍ لا بُد له أن يُخفق فيه.
ونحن نرى أن آدم بعد السقوط نسب هذه التهمة إلى الله.وتلك هي النزعة الخفية في قلب إنسان الآن. لذلك يضطلع يعقوب بمواجهة هذه النزعة فيقول على نحوٍ حازم وجازم إن الله نفسَه فوق مستوى التجربة وأنه لا يًجرب أحداً البتة. إنه لا يًجرب أحداً بقصد أن يجعله يسقط، وهو لا يُجيز أحداً في امتحان لا تكون له طاقةٌ لاحتماله (1 كو 10: 13). فالوصية الاختبارية المعطاة لآدم كان المقصود بها أن تجعل طاعة آدم معلنة، ولم تكن بحالٍ من الأحوال، تفوق طاقته أو قدراته. وبمنطق البشر، كان في وسع الإنسان أن يحفظ تلك الوصية بكل يُسر، لأنها كانت خفيفة، ولا تُقارن في ثقلها البتة بكل ما أعطي آدم وسُمِح له به.
غير أن ما يقصده الله دائماً للخير يؤوله الشيطان دائماً للشر. فهو يُسئ استعمال الوصية الاختبارية ويُحيلها إلى تجربةً، يهجم بها بخدعة على طاقة الإنسان الأول، قاصداً بها كما هو واضح أن يحمل الإنسان على السقوط. فأولاً، يصور الشيطان الوصية الإلهية كأنها ثقلٌ اعتباطي نافل أو تحديد لا أساس له لحرية الإنسان. وهكذا يزرع في قلب حواء بذرة الشك في الوصية من حيث مصدرها الإلهي وعدالتها. وثانياً، يطور ذلك الشك إلى عدم إيمان معتمداً على فكرة كون الله قد أعطى الإنسان هذه الوصية لئلا يصير الإنسان مثله عارفاً الخير والشر. وعدم الإيمان هذا يثير بدوره المخيِّلة فيجعل التعدي يظهر، لا بوصفه السبيل إلى الموت، بل طريقاً إلى الحياة الأبدية وإلى المساواة بالله. ومن ثم يفعل التخيُّل فعله في ميل الإنسان وسعيه، بحيث تبدأ الشجرة المحرمة تكتسي حُلَّةً أخرى: فإذا هي شهية للنظر ومرغِّبة للقلب. وإذ حبلت الشهوة على هذا النحو عطّلت الإرادة ثم ولدت الخطية. وهكذا أخذت حواء من ثمر الشجرة وأكلت فعلاً، وأعطت رجُلَها أيضاً معها فأكل هو الآخر (تك 3: 1 – 6).
بهذه الطريقة البسيطة - والعميقة في نفس الوقت - في سبر أغوار النفس البشرية، تروي كلمة الله خبر السقوط وأصل الخطية. وعلى هذه الشاكلة أيضاً ما تزال الخطية تنفذ إلى حيز الوجود. فإنها تبدأ بإظلام الذهن، وتستمر بتهييج المخيِّلة، وتُثير الشهوة في القلب، وتبلغ ذروتها بفعلٍ من الإرادة. وحقيقة الأمر، إن بين نشوء الخطية الأولى وعمل سائر الخطايا من بعدها فرقاً كبيراً. فالخطايا الأخرى تنطلق من طبيعةٍ خاطئة في الإنسان وتستغلُّ وجود هذه الطبيعة. ولم تكن مثل هذه الطبيعة موجودة في آدم وحواء، لأنهما خُلِقا على صورة الله. ولكننا نفعل حسناً إذا تذكرنا أنهما، رغم كل كمالهما، خُلِقا على حالٍ تحتمل سقوطهما، وأيضاً أن الخطية، بسببٍ من طبيعتها، تُحيط بها دائماً صفتا اللا تعقل والاختيار. فإذا أخطأ أحد، يحاول دائماً أن يعذر نفسه أو يبررها، لكنه لا ينجح البتة في ذلك؛ إذ لا يوجد أبداً أي أساس معقول أو منطقي للخطية. فوجود الخطية كان في كلِّ حين وسيبقى تعدياً وخرقاً للأصل وبينما يحاول البعض في أيامنا أن يؤكدوا أن الشر يصل إلى فعلته الخاطئة بفعل الظروف أو بدافع نزعته الطبيعية، فإن مثل هذه الحتمية الداخلية أو الخارجية خاضعةٌ دائماً في ضمير المرء لتنازع طاغ. فلا يعقل أن تُعزى الخطية - لا منطقياً ولا نفسياً - إلى ميلٍ أو فعلٍ له أيُّ داعٍ لأن يوجد أو أيُّ حق بذلك.
هذا الأمر ينطبق بصورة خاصة على أول خطية ارتُكبت، أي خطية الإنسان الأولى في الجنة. وعلى الرغم من وجود ظروف تحاول تخفيف الأمر في أيامنا هذه، إلا أن هذه الظروف لا تسوغ الخطية وإن كانت تحد بالفعل من معيار الذنب. ولكن في خطية الزوجين البشريين الأولين لم يكن حتى ظرفٌ واحدٌ يمكن أن نحتجَّ بأنه عاملٌ مخفف للجرم. بل إن كلَّ ما يُمكن اعتباره قرائن لحدث السقوط يضخم في الواقع مد الجرم لا يخففه - نعني بذلك: الإعلان الخاص الذي به بُلِّغ آدم حواء الوصية الاختبارية؛ وكونَ مضمون هذه الوصية هو ما هو بحيث لم يكن يقتضي إلا القليل من نكران الذات؛ وخطورة العقوبة الناتجة عن مخالفة الوصية؛ وهول العواقب، وقداسة طبيعة الإنسان الأول.
وبينما نستطيع أن نُلقي بعض الضوء على إمكانية السقوط، يبقى الانتقال إلى حدوثه الفعلي محفوظاً بالظلام. فالكتاب المقدس لا يتضمن ولو تلميحاً واحداً يعيننا على فهم هذا الانتقال. وبذلك يجعل الكتاب الخطية تبرز غير مخفَّفة، في طبيعتها الخاطئة جداً. فهنالك فعلاً شيءٌ هو الخطية، إلا أنه غير شرعي. فطالما كانت وتظلُّ وستبقى إلى الأبد، في نزاعٍ مع شريعة الله ومع شهادة ضميرنا.
إن خبر السقوط في (تكوين 3)، إذ يربط بين هذين الطرفين، أعني - من جهة - تقديم عرض نفسي لنشوء الخطية (وهي شيءٌ يشعر بحقيقته كلٌّ منا كل لحظة في حياته) ثم – من جهة أخرى – إظهار الخطية بصورة مذهلة في طبيعتها غير المعقولة التي لا يُلتَمَس لها العذر، ليسمو كثيراً جداً فوق كل رواية تتناول أصل الخطية من بين ما تأتّى للحكمة البشرية أن تطلع به عبر العصور. ثمَّ إن وجود الخطية والشقاء هو، رغم كل شيء، أمرٌ نعرفه لا من الكتاب المقدس وحسب بل تنادي لنا به كلَّ يومٍ وكلَّ لحظة خليقةٌ تئنُّ بكاملها. فالعالم كلُّه يندرج تحت لافتة السقوط. حتى لو كان العالم من حولنا لا يُعلن ذلك، إذاً لذكرنا به من لحظة إلى لحظة صوت الضمير الذي يتهمنا كل حين، كما يذكرنا به بؤس القلب الذي يُنبينا عن شقاء لا يوصف.
لذلك السبب، ما كان ليتعب بني البشر، في كل مكان وزمان، السؤال: لماذا الشر؟ لماذا شر الخطية وشر الشقاء؟ ذلك هو السؤال الذي شغل فكر البشر وجثم على قلوبهم وعقولهم ساعةً بعد ساعة، أكثر مما شغلهم السؤال المتعلق بأصل الإنسان أيضاً. ولكنْ، لنقارنِ الآن بالجوابِ البسيط الذي يقدمه الكتاب المقدس عن هذا السؤال، الحلول التي ارتأتها له الحكمةُ البشرية.
وبطبيعة الحال، ليست هذه الحلول متشابهةً بحالٍ من الأحوال. غير أنها رغم ذلك تنمُّ عن علاقة ما، وبالنظر إلى هذا الواقع يمكن تحديد هذه الحلول. فالحلُّ الذي يُطرح أكثر من غيره هو ذاك الذي يزعم أن الخطية ليست ساكنةً في الإنسان ولا هي تخرج منه، بل إنها تلتصق به من الخارج. والواقع أن هذه الفكرة تذهب إلى أنَّ الإنسان صالح بطبيعته وقلبه غير فاسد، والشر يكمن في الظروف، أي في البيئة، في المجتمع الذي يولد فيه الإنسان ويُنشَّأ. فإذا أزَلْنا هذه الظروف، بأن نُدخِل مثلاً توزيع الثروات بالتكافؤ على جميع الناس، يصير الإنسان صالحاً بصورة طبيعية، إذ لا يعود ثمة أيُّ سببٍ يدعوه لأن يفعل الشر.
هذه الفكرة الخاصة بأصل الخطية وجوهرها طالما كان لها دائماً مؤيدين كثيرون، لأن الإنسان نزَّاعٌ في كل حين إلى إنحاء ذنبه على الظروف. على أنها وجهة نظر لقيت إكراماً خاصاً لما انفتحت الأعينُ، منذ القرن الثامن عشر، على الفساد السياسي والاجتماعي، وامتُدِح قلْبُ المجتمع والدولة رأساً على عقب بصورة جذرية باعتباره ترياقاً لجميع الأدواء. ولكن في موضوع صلاح الإنسان بالطبيعة هذا، عاد القرن التاسع عشر فأدخل قدراً معيناً من إزالة الوهم. أما حالياً فليس قليلاً بأيِّ حال عددُ الذين يعدُّون طبيعة الإنسان شريرة جذرياً وييأسون من إصلاحه.
وهكذا راج من جديد ذلك التفسير الآخر الذي يبحث عن أصل الخطية في طبيعة الإنسان الحسية. فالإنسان له نفس، لكن له جسداً أيضاً، وهو روحٌ لكنه جسدٌ أيضاً. والجسد ذاته له دائماً نزعاتٌ وميول أثيمة، متمثلة تقريباً في الشهوات الدنسة والهواء المنحطة، وبذلك يقوم - من حيث الطبيعة - ضداً للروح بمفاهيمها وأفكارها ومُثُلها. ونظراً لأن الإنسان عندما يولد يستمر سنين طويلة عائشاً نوعاً من الحياة نباتياً وحيوانياً، ويظل ولداً يعيش على أساس الصور المحسوسة، فغنيٌ عن البيان أن الجسد يكون هو العنصر المسيطر طيلة سنين كثيرة فيُبقي الروح خاضعة له. ولا تنعتق الروح - بحسب وجهة النظر هذه - من سلطة الجسد إلا تدريجياً. ولكن التطور من الجسدانية إلى الروحانية. وإن كان تدريجياً إلى آخر حد، يستمر بالفعل في البشرية وفي الإنسان الفرد.
بطريقةٍ أو بأخرى شبيهة بما تقدم، تحدّث الفلاسفة والمفكرون مراراً وتكراراً عن أصل الخطيئة. إلا أنهم في الزمن الحديث الأقرب إلينا عهداً تلقوا دعماً قوياً من النظرية القائلة بأن الإنسان في ذاته تحدَّد من الحيوان وأنه في قلبه ما زال حيواناً بالفعل.
ويمضي بعضهم فيستدل من هذا الواقع أن الإنسان سيظل حيواناً إلى الأبد. على أن البعض الآخر يراوده الأمل بأن الإنسان، ما دام حتى الآن قد تطور على هذا النحو المتقدم المجيد بالنظر إلى أصوله، سيرتقي بعدُ في رقيّه مستقبلاً، حتى يُصبح ملاكاً على وجه الاحتمال. وأياً كان الأمر، فإن تحدُّر الإنسان من الحيوان بدا شيئاً يقدم حلاً لمشكلة الخطية لافتاً للنظر. فإذا كان أصل الإنسان يعود إلى صدوره عن الحياة الحيوانية، فطبيعيٌّ جداً وأمرٌ لا يدعو إلى العجب أن الحيوان القديم يظل ناشطاً فيه حتى يتحدى أحياناً ضوابط الأدب ويتعداها.
ولذلك يرى كثيرون أن الخطية ليست إلا فعلَ أثرٍ باقٍ من الحالة الحيوانية الأصلية. فالانغماس في الشهوة، والسرقة، والقتل، وما شابهها، ممارساتٌ كانت شائعةً بين الشعوب القديمة جداً مثلما هي بين الحيوانات، وهي تظهر الآن أيضاً في الأفراد المتخلفين من المدعوين مجرمين. غير أن هؤلاء الناس الذين يتردَّون من جديد في الممارسات القديمة والأصلية من حقهم ألا يُعتبروا مجرمين، بل بالأحرى أشخاصاً متخلفين، أو ضعفاء، أو مرضى، أو مجانين تقريباً. وينبغي ألا يعاقبوا في السجون بل أن يعالجوا في المصحات. فكما الجرح في الجسم، كذلك المجرم في المجتمع. وما الخطية إلا مرض يصحب الإنسان من وجوده الحيواني السالف ولا يقمعه الإنسانُ إلا بالتدريج.
وإذا تابع المرء هذا الحظ الجدلي حتى نهايته المنطقية، باحثاً عن تفسير الخطية في الشهوة الحسية، أو الجسد، أو الأصل الحيواني، فمن الطبيعي أن يصل إلى العقيدة التي غالباً ما تم التعليم بها في الماضي والتي ترى أن نقطة الخطية هي في المادة، أو بتعبيرٍ أكثر عمومية: في الوجود المحدود لكل المخلوقات. وقد كان هذا الرأي منذ القديم رأياً مفضلاً. وبحسبه أن الروح والمادة متضادتان، كشأن النور والظلمة. وهذا التضاد أبدي بحيث لا يمكن للأمرين أن يصلا إلى شركة كاملة وصحيحة أحدهما مع الآخر. فالمادة إذاً ليست مخلوقاً، لأنه لم يكن ممكناً أن يخلق إله النور هذا الشيء المظلم. فلا بُدَّ أنها كانت موجودة أزلاً إلى جانب الله، عديمة الشكل ومظلمة، بمنأى من كل نور وحياة. حتى إنها عندما أعطاها الله شكلاً فيما بعد واستخدمها ببناء هذا العالم، ظلت غير قادرة على اتخاذ الفكرة الروحية في ذاتها وعلى العودة إليها. فإذ هي مظلمةٌ في ذاتها ما كنت لتتقبل نور الفكر.
ويرى بعض المفكرين أن هذه المادة المظلمة تعود إلى أصلٍ إلهي خاص بها. وفي هذه الحال، يصير هناك إلهان متواجدان منذ الأزل، هما إله النور وإله الظلمة، إلهٌ خيِّر وإلهٌ شرير. ويحاول آخرون أيضاً أن يردوا مبدأي الخير والشر الأزليين إلى مصدر إلهي واحد، وبذلك يجعلون الله كائناً ثنائياً. في هذا الكائن أساس لا واع ومظلم وسري تنبعث منه طبيعة واعية ونقية ونيّرة. أما الأول فهو المصدر الأصلي للظلام والشر في العالم؛ وأما الثانية فمصدر كل خير وحياة.
وإذا خطونا الآن خطوة واحدة بعد، نصل في عصرنا الحاضر إلى العقيدة التي يُعلِم بها بعض الفلاسفة، إذ يذهبون إلى أن الله في ذاته ليس سوى طبيعة وقوة عمياء، وجوع أزلي وإرادة اعتباطية، يبلغ وعيه فيصبح نوراً في البشرية فقط. ويقيناً الكلمة المكتوبة. فكلمة الله المقدسة تُفيدنا أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة، وانه في البدء كان كل شيء بالكلمة. غير أن فلسفة عصرنا تزعم أن الله ظلمة وطبيعة ولا تكوُّن، وأن النور لا يُشرق عليه إلا في العالم والبشرية. فليس الإنسان بالتالي هو المحتاج لأن يخلِّصه الله، بل إن الله هو غيرُ المخلِّص والذي ينبغي له أن يتطلع إلى الإنسان لأجل افتدائه تعالى.
هذه الخلاصة الأخيرة لا يتوصل إليها بمثل هذا الوضوح طبعاً، كلُّ من يعبث بالنظرية المذكورة، ولا تُصاغ بمثل هذه الصراحة، إلا إنها مع ذلك نهاية الطريق الذي ينتهجه من يلتزمون الآراء المشار إليها أعلاه فيما يتعلَّق بأصل الخطية. ومهما اختلف أتباع هذه الآراء أحدهم عن الآخر، فإن لهم جميعاً هذه الصفة المشتركة: أنهم لا يبحثون عن أصل الخطية ومقرها في إرادة المخلوق، بل في كيان الأشياء وطبيعتها، وبالتالي في الخالق الذي هو علة هذا الكيان وهذه الطبيعة. فإذا كانت الخطية كامنة في الظروف، والمجتمع، والشهوة الحسية، والجسد، والمادة، فالمسؤولية عنها إذ ذاك يجب أن تُلقى على ذاك الذي هو خالق كل شيء ومدبره. وعندئذٍ يمضي الإنسان بريئاً من أي لوم وسليماً من أي أذى. وفي هذه الحال لا تكون الخطية قد ابتدأت عند السقوط، بل عند الخلق. ومن ثم يتطابق الخلق والسقوط كلياً. وعندئذ تصير الكينونة - أي الوجود - في حد ذاتها خطيئة؛ والنقائض الأدبية كأنها والمحدودية شيءٌ واحد؛ كما يغدو الفداء مستحيلاً كلياً، أو يبلغ ذروته في محق العنصر الحقيقي، في النِرفانا.
إنما حكمة الله أسمى جداً جداً من هذه التوهمات البشرية. فهذه الأخيرة تلقي المسؤولية على عاتق الله وتزكي الإنسان؛ أما الأولى فتبرر الله وتتهم الإنسان بالذنب. وكلمة الله المقدسة هي الكتاب الذي من أوله إلى آخره يتبرر الله ويتذنب الإنسان. فهذه الكلمة هي أقوى دفاعٍ وأعظمُه عن عدالة الله، إذ تزكى الله وكلَّ سجاياه وكلَّ أعماله، تؤيدها في ذلك شهادة ضمير كل إنسان. صحيحٌ أن الخطية ليست شيئاً يقع خارج نطاق العناية الإلهية، إذ لم يحدث السقوط خارج مدى علم الله السابق ومشورته ومشيئته. بل إن كاملَ تطوُّر الخطية وتاريخها خاضعٌ لسيطرته، وسيبقى إلى النهاية ملتزماً لتوجيهه. ففي موضوع الخطية يبقى الله هو الله الكلي الحكمة والصلاح والقدرة.
فإن الله هو بالحقيقة صالح وقدير بحيث يجعل الخير يخرج من الشر، ويستطيع أن يُجبر الشر، رُغم طبيعته، على المساهمة في تمجيد اسمه وتوطيد ملكوته. إلا أن الخطية تبقى مع ذلك محتفظة بصفتها الخاطئة المميزة. وفي وسعنا أن نقول، بمعنىً خاصًّ جداً، إن الله سمح بالخطية مادام لا شيء يمكن أن يبرز إلى الوجود، ولا أن يوجدَ، بدون إرادته وخارج نطاقها. ومع ذلك فإن علينا دائماً أن نذكر أنه سمح بها بوصفها خطية، أي شيئاً غير سوي وكان يجب ألا يكون، ولذلك فهو شيء غير شرعي ومضادٌّ لأمره تعال.
وهكذا، فإن الكتاب المقدس إذ يزكي الله، يؤكد في الوقت نفسه طبيعة الخطية. وإذا لم يكن أصل الخطية بسماح من مشيئة الله، بل من الجوهر أو الكينونة التي تسبق المشيئة، فإنها حالاً تفقد صفتها الأدبية المميزة، وتصير شيئاً مادياً وطبيعياً، أي شراً غير منفصل عن جود سائر الأشياء وطبيعتها. وعندئذ تكون الخطية حقيقية مستقلة، ومبدأ أساسياً، ونوعاً من المادة الشريرة، كما كان يُعتقد بشأن المرض في الأزمنة الغابرة. غير أن كلمة الله المقدسة تعلِّمنا أن الخطية ليست من هذا النوع، ولا يمكن أن تكون منه. ذلك أن الله هو الخالق لكل شيء، بما في ذلك المادة، ولما أكمل عمل الخلق، رأى تعالى كل ما عمله، فإذا هو حسنٌ جداً.
إذاً الخطية لا تنتمي إلى طبيعة الأشياء. فهي ظاهرةٌ أدبية بطبيعتها، ناشطةٌ في الفلك الخُلُقي، وقوامها الابتعاد عن المعيار الخُلُقي الذي وضعه الله بمشيئته للإنسان العاقل. وقد توضعت الخطية الأولى في تعدّي الوصية الاختبارية، وبالتالي تعدي كامل الناموس الأدبي المستقر على السلطان الإلهي نفسه الذي عليه استقرت الوصية الاختبارية. إلى هذا الاتجاه نفسه تُشير جميع الأسماء التي تستعملها الكلمة المقدسة لتسمية الخطية: التعدي، العصيان، الإثم، الفجور، العداوة لله، وما إليها. ويقول بولس الرسول صراحةً إن بالناموس معرفة الخطية (رومية 3: 20)، كما يُعلن يوحنا أن كل خطية، أصغر الخطايا وأكبرها على السواء، هي تعدٍّ، أو إثم وفجور (1 يوحنا 3: 4).
ولما كان التعدي هو طبيعة الخطية، فإن صفتها المميزة هذه لا يمكن أن تكون كامنة في طبيعة الأشياء أو جوهرها، أمادياً كان أم روحياً، لأن جميع الأشياء موجودة بفضل الله وحده، وهو تعالى مصدر كل خير. ولذلك لا يُعقل أن يأتي الشر إلا بعد الخير، ولا يُمكن أن يوجد إلا من خلال الخير وعلى أساسه، بحيث لا يكون في الواقع إلا إفساداً للخير. حتى الملائكة الأشرار، وإن كانت الخطية قد أفسدت كامل طبيعتهم، يظلُّون - من حيث هم خلائق - شيئاً حسناً كما كانوا كذلك أصلاً. أضف إلى هذا أن الخير بمقدار ما هو في صُلب جوهر الأشياء أو كينونتها، لا تمحقه خطية، وإن كان حُرِفَ في اتجاه آخر أو أُسيء استعمالهُ. فالإنسان لم يفقد كينونته أو طبيعته البشرية، من جراء الخطية. ما تزال لديه نفس وجسد، وعقل وإرادة، وعواطف واهتمامات من أنواعٍ شتى.
غير أن جميع هذه الهبات مع كونها صالحة في ذاتها ونازلة من عند أبي الأنوار، باتت الآن تُستعمل كأسلحة ضد الله موضوعة في خدمة الإثم. وعليه، فالخطية ليست مجرد نقص أو حاجة، ولا هي أيضاً فقدان الإنسان لما كان يمتلكه أصلاً. فليس هذا أشبه بوضعِ من كان غنياً ثم افتقر، أو من مُني بخسارةٍ فادحة ثم كان عليه أن يواصل العيش بأقل كثيراً مما كان له. بل إن الخطية أكثر من ذلك بكثير. إنها حرمان الإنسان ما كان يجب أن يمتلكه ليكون إنساناً بكل معنى الكلمة؛ وهي في الوقت نفسه إدخالُ نقصٍ أو تشويه لا يليق بالإنسان.
وبحسبما أثبت العلم المعاصر أن المرض ليس مادة خاصة مستقلة بذاتها، بل هو بالأحرى عيشٌ في ظروف مغايرة بحيث أن قوانين الحياة تبقى في الواقع هي إياها كما في الجسم السليم، إلا أن أعضاء المريض الحية ووظائفها يعتريها اختلالٌ في نشاطها السوي. حتى الجسد الميت لا يتوقف فيه العمل غير أن النشاط الذي يبدأ عندئذٍ يكون من نوعٍ هدام يؤول إلى الانحلال. بهذا المعنى عينه، ليست الخطية مادة في ذاتها بل هي بالأحرى ذلك الاختلال اللاحق بجميع ما أعطى الله الإنسان من مواهب وقدرات، على نحوٍ يجعلها تعمل في اتجاهٍ آخر، لا نحو الله بل بعيداً عنه في خطٍّ معاكس. فإن العقل والإرادة، والاهتمامات والعواطف والمشاعر، والقدرات النفسية والبدنية من نوعٍ أو آخر هذه كلها كانت فيما مضى آلات بر، لكنها الآن استحالت آلات إثم، وذلك بفعل الخطية الخفي. فلم تكن صورة الله التي نالها الإنسان عند خلقه، مادةً مستقلة، إلا أنها كانت مع ذلك مناسبة تماماً لطبيعته بحيث إنه عندما فقدها صار مشوهاً وناقصاً كلياً.
ولو قُدِّر لأحد أن يرى الإنسان على حقيقته، داخلاً وخارجاً، لاكتشف فيه ملامح تشبه الشيطان أكثر مما تماثل الله (يوحنا 8: 44). فقد حل المرض والموت الروحيان محل الصحَّة الروحية. ولكن هذه الأخيرة لا تقل عن سابقيها قدراً من حيث كونها عنصراً مكوَّناً من عناصر الإنسان الكيانية. حتى أن الكتاب، عندما يشدّد على الطبيعة الأدبية للخطية، يؤكد بذلك أيضاً إمكان افتداء الإنسان.
وليست الخطية شيئاً ينتمي إلى جوهر العالم بل هي بالأحرى شيءٌ أدخله الإنسان إلى العالم. لذلك السبب يمكن أيضاً إزالتها من العالم بقوة النعمة الإلهية التي هي أقوى من كل مخلوق.
لم تبق أول خطية ارتكبها الإنسان وحدها طويلاً. فهي لم تكن ذلك النوع من الفعل الذي يستطيع الإنسان بعد فعله أن ينفض يده منه ويزيل آثاره. إذ لم يعد في استطاعة الإنسان بعد هذه الخطية أن يواصل مسيرته وكأن شيئاً لم يكن. ففي اللحظة التي سمح الإنسان فيها للخطية بأن تُقيم في فكره ومخيلته، وفي رغبته وإرادته، في تلك اللحظة بالذات حدث فيه تغيُّر هائل. وذلك واضح جلياً من حقيقة كون آدم وحواء، بعد السقوط مباشرة، حاولا الاختباء من وجه الله والتستُّر أحدهما من الآخر، وقد انفتحت أعينهما كليهما فعلما أنما عُريانان (تكوين 3: 7). ففجأةً، في لحظة واحدة، وقف أحدهما مقابل الآخر في علاقة جديدة مختلفة. إذ رأى أحدهما الآخر كما لم يره قطٌّ من قبل. فلم يتجاسرا ولم يتمكنا، بكل حرية وبلا أي تحفظ، أن ينظرا بعضهما في عيني بعض. لقد شعرا، في قرارة النفس بأنهما مذنبان وغير طاهرين، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما ما يستران به عُريَهما أحدهما أمام الآخر. ورغم كل شيء، تشارك أحدهما مع الآخر في الوضع نفسه وشعرا أنهما واحد إزاء الخوف المشترك وضرورة الاختباء من وجه الله في وسط شجر الجنة.
وقد وفرت أوراق التين ستراً جزئياً لعورة أحدهما عن الآخر، ولخزيهما بعضهما أمام بعض، غير أنها ما كانت وافيةً لمواجهة وجه الله، ولذلك هربا واختبأا في أعماق أشجار الجنة الغبياء. فإن الخزي والخوف استوليا عليهما، لأنهما ضيعا صورة الله وشعرا أنهما مذنبان وغير طاهرين أمام وجهه.
وهذه هي دائماً عاقبة الخطيئة. فأمام الله ونفوسنا وإخواننا البشر، نفقد العفوية والحرية الروحيتين الداخليتين، لكونهما حقيقتين واقعتين لا يشبعهما في قلوبنا إلا الشعور بعدم الذنب. على أن هول الخطية الأولى يتوضح بأكثر جلاءً أيضاً في حقيقة كون آثارها تنتقل من أول زوجين بشريين إلى جميع البشر دون استثناء فقد اتُّخذت الخطوة الأولى في الاتجاه المغلوط وإذا جميع المتحدرين من آدم وحواء يسيرون خلفهما في الطريق عينه. وعمومية الخطية واقع يفرض ذاته على إدراك كل إنسان. فهي حقيقة واقعية راسخة على نحو لا يقبل الجدل، يؤيِّدها أيضاً دليل الاختبار وليس فقط تعليم الكلمة الإلهية المقدسة.
ولن يكون أمراً عسيراً البتة أن نجمع الشهادات الدالة على الخطية من كل مكان وزمان. فأبسطُ الناس وأكثرُهم ثقافة يتفقون جميعاً في هذا الأمر حتى ليقال إنه لا يولد أحدٌ من دون خطية. ولكلٍ ضعفاته ونقائصه. ومن عِلَل الإنسان الفاني غباوة الفكر، ويقصد بذلك لا حتمية الخطأ وحسب بل محبة الخطأ أيضاً. ولا أحد حر الضمير. والضمير يجعلنا جميعاً خونة. وأثقل حملٍ يتعين على البشر أن يحملوه هو عبء الذنب على هذا النحو تطرق مسامعنا أقوالٌ وأقوال من كل جهةٍ في تاريخ البشرية. حتى أولئك الذين ينطلقون من مبدأ أساسي عندهم، هو أن الإنسان خيِّرٌ بالطبيعة، يُضطرون في نهاية استقصائهم لأن يعترفوا بأن بذور جميع الخطايا والأفعال الرديئة مخبوءة في قلب كل إنسان. وكم من الفلاسفة قد دوَّنوا الإشتكاء من كون جميع البشر أشرارً بالطبيعة.
ويؤيد الكتاب المقدس هذا الحكم الذي أصدرته البشرية على نفسها. فبع أن يورد في الفصل الثالث من التكوين خبر السقوط، يبين في الفصول اللاحقة كيف انتشرت الخطية وازدادت في الجنس البشري حتى بلغت في آخر المر ذروة باتت معها دينونة الطوفان ضرورة لا مفر منها. فبخصوص جيل البشر السابق للطوفان يقول الكتاب إن شر البشر قد تعاظم جداً على الأرض، وإن كل تصور من أفكار قلب الإنسان كان شريراً كلَّ يوم، وإن كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض، وقد رأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت (تكوين 5: 6، 11 و 12). غير أن الطوفان العظيم لا يأتي بأي تغيير في قلب الإنسان. فبعد الطوفان أيضاً يقول الله عن البشرية الجديدة العتيدة أن تتحدّر من أسرة نوح إن تصور قلب الإنسان شريرٌ منذ حداثته (تك 8: 21).
ويلتقي جميع قديسي العهد القديم على الإدلاء بما يؤيد هذه الشهادة الإلهية. فأيوب يشكو قائلاً إنه ما من أحدٍ يستطيع أن يُخرج الطاهر من النجس (أي 14: 4). وسليمان يعترف في صلاته عند تدشين الهيكل بأنه ليس إنسانُ لا يُخطئ (1 ملوك 8: 46). وفي (المزمورين 14 و53) نقرأ أن الرب، إذ أشرف من السماء على بني البشر لينظر هل من فاهم طالبِ الله، لم يجد شيئاً إلا الفساد والإثم. فالكلُّ قد زاغوا معاً، فسدوا؛ ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد. لا أحد يقوي على الوقوف أمام وجه الرب، لأنه لن يتبرر قُدامه أيُّ حي (مز 143: 2). ومن يقول: إني زكيت قلبي، تطهرت من خطيتي؟ (أمثال 20: 9). وبعبارة موجزة، لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحاً ولا يُخطئ (جامعة 7: 20).
هذه الأقوال كلُّها عامة وشاملة بحيث لا تُفسح المجال لأي استثناء. وهي لا تصدر من أفواه الأشرار والفجار الذين لا يكونون في الغالب مهمتين بخطاياهم أو خطايا سواهم، بل إنها صادرةٌ من قلوب الأتقياء الذين تعلَّموا أن ينظروا إلى أنفسهم باعتبارهم خطاةً أمام وجه الله. وهؤلاء لا يُصدرون هذا الحكم على الآخرين وحدهم بالدرجة الأولى، أو بعبارة أخرى على الذين يعيشون في الخطية العلنية كالوثنيين المنفصلين عن معرفة الله؛ بل إنهم في الواقع يبدأون بأنفسهم وبشعيهم.
فالكتاب المقدس لا يصور لنا القديسين كأناسٍ عاشوا على الأرض في كمال القداسة، بل بالأحرى كخطاةٍ ارتكبوا أحياناً معاصي خطيرة. وبكل تحديد، إن القديسين هم الذين يشعرون بذنبهم على أهول ما يكون ويتقدمون أمام وجه الرب معترفين بالذنب بكل تواضع، وإن كانوا يظلون واثقين من عدالة قضيتهم.[57] حتى إنهم عندما يقفون ليشهدوا على الشعب ويبكتوه على ارتداده وخيانته، ينتهون إلى شمل أنفسهم مع الشعب كواحدٍ منهم، ويجهرون بالاعتراف العام: نضطجع في خزينا ويغطينا خجلنا، لأننا إلى الرب أخطأنا، نحن وآباؤنا، منذ صبانا إلى هذا اليوم، ولم نسمع لصوت الرب إلهنا. [58]
كذلك لا يدع العهد الجديد أيضاً أيَّ ظلٍ للشك في حالة الخطية التي يتردى في هوتها الجنس البشري كله. فالكرازة بالإنجيل تنبني بكاملها على هذه الحقيقة البديهية. فلما نادى يوحنا المعمدان باقتراب ملكوت الله، طلب من الناس أن يتوبوا ويتعمدوا، لأن الختان والذبائح وحفظ الناموس لم يتأتى لها أن تمنح شعب اسرائيل البر مع أنهم بحاجة إليه لدخول ملكوت الله. وهكذا خرج إليه أهل أورشليم وكل اليهودية، واعتمدوا على يده في الأردن معترفين بخطاياهم (متى 3: 5 و 6). وكذلك أظهر المسيح نفسه كارزاً بمثل هذه الكرازة المختصة بملكوت الله، هو يشهد بنفسه أيضاً أنه لا يفتح الطريق إلى الملكوت إلى الرجوعُ إلى الله بإيمانٍ وتوبة. [59]
بالحقيقة أن المسيح يقول في (متى 9: 12 و13) إن الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب، وإنه ما جاء ليدعو إلى التوبة الأبرار بل الخطاة إلا أن سياق الكلام يبين أن المسيح - إذ قال كلما قاله هنا - كان يفكر في الفريسيين وفي برِّهم الذاتي حين تجهموا لما رأوه يُجالس العشارين والخطاة. فلقد تعالوا على هؤلاء جداً ولعب برأسهم التبجُّح ببرِّهم ولم يستشعروا حاجتهم إلى محبة المسيح الباحثة عن المحتاجين إليها.
ففي الآية الثالثة عشرة يقول المسيح صراحةً وما يُفهم منه أن الفريسيين، لو فهموا أن الله في شريعته لم يُرِد الذبائح الخارجية بل الرحمة الروحية الداخلية، لكانوا وصلوا إلى الاقتناع بأنهم هم أيضاً - شأنهم شأن العشارين والخطاة -مذنبون ونجسون ومحتاجون إلى التوبة باسمه الكريم. وهو نفسه في تلك الأثناء يقصر خدمته على خراف بيت اسرائيل الضالة (مت 15: 24)، غير أنه بعد قيامته يكلف تلاميذه وكالة الانطلاق إلى العالم أجمع والكرازة بالإنجيل للخليقة كلها، لأن الخلاص هو لجميع البشر الذين يركنون إلى الإيمان باسمه (مرقس 16: 15 و16).
ومما يوافق هذا أن الرسول بولس يبدأ رسالته إلى مؤمني مدينة رومية بعرضٍ شامل للحجج التي تُبين أن العالم كُلَّه مذنبٌ أمام الله وأنه بالتالي لن يتبرر جسدٌ ما بأعمال الناموس (رو 3: 19 و 20). فليس الوثنيون فقط لم يعرفوا الله ولم يمجِّدوه (رو 1: 8 - 32). بل أيضاً اليهود المفاخرون بامتيازاتهم ولكنهم في الواقع يُذنبون بالخطايا عينها هُم جميعاً تحت حُكم الخطية (رو 3: 9؛ 11: 32؛ غلاطية 3: 22). ولا بُدَّ أن يكون ذلك لكي يستدَّ كلُّ فمٍ وتتعظم نعمة الله وحدها في خلاص الجميع.
والواقع أن هذا الإثم الشامل هو على نحو جوهري أساس الكرازة بالإنجيل في العهد الجديد، بحيث يصبح لكلمة "العالم" مضمونٌ بغيض جداً. فإذا نظرنا إلى العالم في حد ذاته وإلى كلِّ ما فيه نجد بالطبع أن الله هو خالق هذا وذاك؛[60] غير أن العالم صار من جراء الخطية فاسداً جداً بحيث إنه يقوم الآن في مواجهة الله كقوةٍ معادية. فهو لا يعرف الكلمة الذي له يدين بوجوده (يوحنا 1: 10). وهو بكامله موضوع في الشرير (1 يوحنا 5: 19)، وخاضعٌ للشيطان كرئيس له (يو 14: 30؛ 16: 11)، وهو زائلٌ بكل ما فيه من شهوة ومرغوبية (1 يو 2: 16). وكل من يُحبُّ العالم يبين أن محبة الآب ليست فيه (1 يو 2: 15)، ومن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً لله (يعقوب 4: 4).
ومن شأن هذه الحالة الرهيبة التي توجد فيها البشر والعالم بالطبيعة أن تثير الأسئلة حول مصدرها وسببها: من أين جاءت، لا الخطية الأولى وحدها بل حالة الإثم الشاملة؟ وما مصدر الذنب والفساد اللذين يشملان الجنس البشري كلَّه واللذين يخضع لهما كلُّ إنسانٍ منذ ولادته، ما عدا المسيح طبعاً؟ أبين الخطية الأولى التي ارتُكبت في الفردوس وطوفان الإثم الذي غمر العالم مذ ذاك أيةُ علاقة؟ وإن كان نعم، فما طبيعة هذه العلاقة؟
هنالك من يقفون مع بيلاجيوس في إنكاره الكلي لمثل هذه العلاقة. فبحسب ما يقولون إن كل فعلٍ آثم هو عملٌ قائمٌ بذاته ولا يُدخل أي تغيير على الطبيعة البشرية، ويمكن بالتالي أن يعقبه في اللحظة التالية فعلٌ صالح على نحو استثنائي. وبعدما تعدى آدم وصية الله، ظل في طبيعته الداخلية، أي في نزوعه وإرادته، مثلما كان كلياً. وهكذا أيضاً جميع الأولاد الذين يتحدرون من هذين الزوجين البشريين الأولين يولدون بطبيعة حيادية وبريئة من الذنب،كتلك التي كانت لآدم أصلاً.
ويمضي أتباع هذا الرأي فيقولون إنه ليس ثمة ما يسمى طبيعةً فاسدة أو نزعة خاطئة أو عادة آثمة، لأن الخليقة كُلَّها بَرَّأها الله وهي تبقى جيدة. إذ ليس هنالك إلا أفعالٌ رديئة، وهذه لا تشكل سلسلة متصلة غير منفصلة، بل هي على حالٍ تتيح لها أن تتبادل الأدوار كلَّ حين مع الأعمال الصالحة، وهي مرتبطة بالشخص نفسه بطريقةٍ لا تُجاوز البتة الاختيار الحر المتوقف كلياً على الإرادة. أما الأثر الوحيد الذي ينتقل من الأفعال الأثيمة أو الأعمال الرديئة إلى الشخص نفسه أو إلى الآخرين الذين في جواره، فهو أثر القدوة السيئة فقط. فما إن نفعل عملاً ردياً مرةً، حتى نصير نزاعين إلى فعله ثانيةً، ولا أرجح أن يقتدي الآخرون بنا، والإثم الشامل الذي يتردى فيه الجنس البشري كلُّه يجب أن يُفسَّر بهذه الطريقة. أي بطريقة المحاكاة. فليس من شيءٍ يُدعى الخطية الموروثة. إذ أن كل إنسان يولد بريئاً، ولكن القدوة السيئة التي يقدمها للناس عموماً هي ذات تأثير سيئ في المعاصرين والحُفَداء على السواء. وإذ تحدوا الجميع العادةُ والعُرف، يسلكون جميعاً في الطريق الأثيم عينه، مع أنه ليس مستحيلاً ولا مستبعداً أن يقوم هُنا أو هناك فردٌ ما فيؤكد ذاته في وجه قوة العرف ويشقُّ طريقه وحيداً ويعيش بقداسةٍ على الأرض.
بيد أن هذه المحاولة في تفسير فساد البشرية لا تناقض كلمة الله المقدسة في كل ناحية وحسب، بل إنها أيضاً سطحية وغير وافية حتى لا يكاد أحدٌ يدعمها كلياً ولو بصورة نظرية. ثم إن لها ما يُناقضها في الحقائق الواقعة التي تشهدها اختباراتنا الخاصة وحيواتنا الشخصية. فجميعنا نعلم من اختبارنا أن فعلاً رديئاً ما ليس خارجياً بالنسبة إلينا وكأنه رداءٌ مُتَّسخ يمكن خلعه وطرحه جانباً، بل إنه بالأولى مرتبطٌ بطبيعتنا الداخلية وهو يخلِّف فيها آثاراً لا تُمحى. فبعد كل عمل خاطئ، لا نعود مثلما كُنَّا قبله. إذ إن الخطية تجعلُنا مذنبين ونجسين، وتسلبنا سلام الذهن والقلب، ويعقبها الندم وتبكيت الضمير، وهي تمكننا في الميل إلى الشر، بل في الانحراف إليه، وتُدخِلنا إلى حالة لا نقوى فيها، آخِرَ المر، على بذل المقاومة لسلطان الخطية، بل نستسلم حتى لأخفِّ التجارب.
ثم إنه لأمرُ يعارض الاختبار أيضاً أن تعتقد أن الخطية تستبدُّ بالإنسان من الخارج فقط. صحيحٌ أن القدوة السيئة يمكن أن يكون لها تأثيرٌ هائل. نرى ذلك في الأولاد الذين يولدون لآباء أردياء وينشأون في بيئةٍ خلُقية خالية من التقوى والرصانة. وعلى عكس ذلك، فإن في الولادة من آباء أتقياء والتربية في محيطٍ سليم خُلُقياً ودينياً لبركة لا يمكن تقديرُها. غير أن ذلك كلَّه ليس إلا جانباً واحداً من المسألة. فما كان لفلك البيئة السيئة مثلُ هذا التأثير السيئ في الولَد لو أن الولد نفسه لم تكن له في قلبه نزعةٌ نحو الشر. وعلى المنوال نفسه، فإن البيئة الصالحة ما كانت لتُخفف غالباً في التأثير بالولد لو أن ذلك الولد كان قد تلقى عند ولادته قلباً نقياً يمتثل لكلِّ ما هو خير.
لكننا نعلم بالأحرى أن البيئة ليست إلا المناسبة التي فيها تبلغ الخطيةُ طورها في داخلنا. فأصل الخطية يستقرُّ في أعماق قلوبنا. وقد قال المسيح إنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة، والزنى والفسق والقتل، والسرقة والطمع والخبث، وسائر الشرور (مرقس 7: 21). وهذا القول يؤيده اختبارُ كل إنسان. فغالباً - دون إرادتنا ومعرفتنا - تنشأ في وعينا أفكارٌ نجسة وتصورات باطلة. وفي بعض المناسبات، حيث تواجهنا العداوة أو المقاومة، ينفجر علناً ما يكمن في دواخلنا من شرٍّ مكبوت. وأحياناً نُذهَل في أنفسنا من عظم شرِّنا، ونتمنى لو نهرب من أنفسنا. فالقلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس (شرير بحيث لا يمكن إصلاحه): من يعرفه؟ (إرميا 17: 9).
أخيراً، لو كان الإقتداء بالقدوة السيئة هو وحده أصل الخطية في البشرية، لما كان ممكناً تفسير شمولية الشر المطلقة. لأجل ذلك ارتأى بيلاجيوس أن أناساً هنا وهناك عاشوا، على وجه الاحتمال، بلا خطية. إلا أن هذه الاستثناءات إنما تُلقي ضوءاً أسطع على لا معقولية الفكرة البيلاجيوسية. فما خلا المسيح وحده، لم يطأ الأرض قطُّ إنسانٌ خالٍ من الخطية.
وليس من الضروري أن نعرف كل الناس واحداً واحداً حتى نحكم هذا الحكم. فالكتاب المقدس يتكلم على أوضح ما يكون، ودون أدنى لبس أو غموض، فيقول القول الفصل في هذا. ثم إن تاريخ البشرية كلَّه يقدم البرهان على صحة القول. وقلبُ كلٍّ منا هو المفتاح الذي يفتح أمامه الباب لفهم القلب الذي يُقيم في داخل الآخرين جميعاً. فنحن جميعاً سواسية في الأهواء، حتى إننا نكوِّن معاً لا وحدة طبيعية فقط، بل وحدة خلقية أيضاً. فثمة طبيعة بشرية واحدة يشترك فيها جميع البشر، وهي طبيعة أثيمة ونجسة. والشجرة الرديئة لا تطلع من الثمر الردئ، بل إنما الثمر الردئ ينتج من الشجرة الرديئة؛ ومن الثمر نعرف الشجر.
من هنا أقر آخرون بصحة هذه الاعتبارت، فأدخلوا بالتالي بعض التعديلات على تعليم بيلاجيوس. ويعترف هؤلاء بأن شمولية الخطية لا يمكن أن تكون فقط نتيجة الإقتداء بقدوة سيئة، وأن الشر الأدبي لا يأتي الإنسان من الخارج وحسب. وهم يرون أنفسهم مضطرين إلى الإقرار بأن الخطية تسكن داخل الإنسان من وقت الحبل به وولادته فما بعد، وأنه يأخذ طبيعته الفاسدة من أبويه. بيد أنهم يذهبون إلى أن هذا الفساد الأدبي صفةُ الذنب، وهو لذلك أيضاً لا يستحق العقاب. وهذا الفسادُ الأدبي الكامن لا يصير خطية وذنباً وفعلاً يستحقَّ اللوم إلا عندما يُذعن له الإنسان باختياره متى بلغ أشُدَّه، أي عندما يتقبل المسؤولية عنه - إذا جاز التعبير - ويحوِّله بإرادته الحَُّرة إلى أفعالٍ أثيمة.
قد يكون في هذا الرأي شبه البيلاجيوسي تسويةٌ ذات شأن، إلا أنه يتبين لنا بعد التفكير فيه أنه غير وافٍ إلى أبعد حد. ذلك أن الخطية قوامها دائماً اللاشرعية وخرق القانون، والتعدي والابتعاد عن الناموس الذي وضعه الله لخلائقه المتميزة بالعقل والخُلُق. وبينما يمكن أن يتم انتهاك هذا الناموس بما يرتكبه البشر من أعمال أثيمة، قد يتمُّ ذلك أيضاً في ميوله ونزعاته، أي في طبيعته التي يحملها منذ الحبل به وولادته. والرأي شبه البيلاجيوسي يقر بهذا ويتحدث عن فسادٍ أدبي سابق لخيارات الإنسان وأفعاله. ولكن إذا نظرنا إلى هذا الواقع بعين الجد فلا مفر من الاستنتاج أن الفساد الأدبي الكامن الآن في الطبيعة البشرية هو أيضاً خطية وذنب وأنه بالتالي لا بد من معاقبته. فليس ثمة إلا هذان الاحتمالان: إما أن تكون الطبيعة البشرية منسجمةً مع ناموس الله، فتكون بذلك ما ينبغي لها أن تكون، وفي هذه الحالة لا تكون فاسدة؛ وإما أن تكون الطبيعة البشرية فاسدة أدبياً ولا تستجيب لناموس الله، فتكون بالتالي لا شرعية وغير مبررة، ولذلك تجعل الإنسان مذنباً ومستحقاً اللوم.
ومع أنه قليلٌ ما يمكن أن يقال ضد محاجة كهذه، فإن كثيرين يحاولون التملُّص من حتميتها بوصفهم للفساد الأدبي الذي يصحب الإنسان منذ ولادته بالتعبير الغامض "الشهوة". وبالطبع، ليس استعمال هذه الكلمة خطأً في ذاته. فالكتاب المقدس أيضاً يستخدمه غالباً. ولكن بتأثير النزعة التقشُّفية التي نشأت في الكنيسة المسيحية بالتدريج، غالباً ما استخدم علمُ اللاهوت هذه اللفظة بمعنىً محدود جداً، إذ مال إلى اعتبارها تدلُّ فقط على الشهوة الجسدية أو التناسلية الموجودة في الإنسان على نحو خاص، وبذلك انتهى إلى الفكرة القائلة بأن هذه الشهوة، وإن كانت قد أُعطيت للإنسان عند خلقه، ولذلك فهي ليست أثيمة بحد ذاتها، إلا أنها توفر مع ذلك فرصة مواتية لارتكاب الخطية.
وقد كان كالفن هو من عالج مفهوم الشهوة على هذا النحو. فهو لم يعترض على إطلاق اسم "الشهوة" على الفساد الأدبي الذي يولد الإنسان عليه. لكنه أراد أن تُفهم هذه الكلمة حقَّ الفهم. ومن الأمور التي رآها ضرورية أن نميز بين الرغبة والشهوة. فالرغبات ليست بحد ذاتها خاطئة، وكلُّها أُعطيت للإنسان عند خلقه. ولأنه، بوصفه إنساناً، مخلوقٌ محدود ومتناهٍ وغير مستقلٍ، فإن له حاجاتٍ كثيرة العدد، وبالتالي له رغباتٌ عديدة جداً. فإذا جاع رغب في الطعام، وإذا عطش رغب في الشراب، وإذا تعب رغب في الراحة. وهذا المبدأ عينه يصدق على الناحية الروحية في الإنسان. فإن عقل الإنسان خُلِق على حالٍ تجعله يرغب في الحق؛ كما أن إرادة الإنسان، بفضل طبيعتها من حيث إن الله خالقُها، ترغب في الصلاح. فنقرأ في (أمثال 11: 8) أن "منتظر الصديقين مفرِّح"، أي أن رغبة الأبرار مُسِرَّة. فلما رغب سليمان في الحكمة لا في الغنى، حسن ذلك في عيني الرب (1 ملوك 3: 5 - 14). ولما اشتاق ناظم المزمور (42) لله كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه، كانت تلك أيضاً رغبةً صالحة وعزيزة.
إذاً ليست الرغبات في حدِّ ذاتها أثيمة، غير أنها - شأنها شأن الذهن والإرادة - أفسدتها الخطية وبذلك صار بينها وبين ناموس الله صراع ونزاع. فالرغبات الأثيمة هي تلك الرغبات التي أفسدتها الخطية فلم تعُد منظمة ولا منضبطة بالتالي، وليس الرغبات الطبيعية الخالصة طبعاً.
ثم ينبغي أن يضاف إلى هذا واقع كون الخطايا غير مقتصرة بأي حالٍ على طبيعة الإنسان الحسية والجسدية فقط. فالخطايا هي من خصائص الإنسان الروحية الأثيمة أيضاً. وليست الشهوة الجسدية هي الرغبة الطبيعية الوحيدة، بل هي واحدة بين كثيرات. حتى هذه الشهوة ليست أثيمةً في ذاتها، لأنها أُعطيت للإنسان عند خلقه. وهي ليست الشهوة الوحيدة التي أفسدتها الخطية، لأن جميع الرغبات، الطبيعية والروحية، صارت وحشية وغير منضبطة من جراء الخطية. وبذلك مُسِخت الرغبات الصالحة في الإنسان فصارت رغبات شريرة.
فإذا دُعي الفساد الأدبي في الإنسان رغبة أو شهوةً، بهذا المعنى، فإن طبيعته الأثيمة وذنبه مؤكدان طبعاً. عن هذه الشهوة تنهي بصراحة وصيةٌ خاصة من الوصايا العشر (خروج 20: 17). ويقول بولس في هذا المجال ما يُختصَر بعبارة: إنه لم يعرف الخطية لو لم يقل الناموس لا تشته (رومية 7: 7). فلما أصبح بولس يعرف نفسه، وقاس لا أعماله فقط بل ميوله ورغباته أيضاً، بمعيار ناموس الله، تبين له أن هذه الأخيرة أيضاً فاسدة وغير طاهرة وهي تشدُّه نحو المحرَّم. وعند بولس أن ناموس الله هو المصدر لمعرفة الخطية والمعيار الوحيد لقياسها. فليس في وسع المرء أن يصل إلى معرفة الخطية حقَّ المعرفة عن طريق التمني أو التصوُّر، بل فقط بواسطة ناموس الله الذي يحدد كيف وماذا ينبغي أن يكون الإنسان أمام وجه الله، في سيرته وسريرته معاً، وفي الجسد والروح، والقول والفعل، والفكر والميل. فإذا ما قيست طبيعة الإنسان بموجب محك الناموس الإلهي، لا يمكن أن يكون أيُّ شك في كونها فاسدة وفي كون شهوته أثيمة. فالإنسان لا يفكر ويتصرَّف فقط على نحوٍ خاطئ، بل إنه هو خاطئ منذ الحبَل به.
ثم أن الاعتقاد بأن الرغبة في حد ذاتها ليست خاطئة بل تصير هكذا من خلال الإرادة فقط، لهو موقف يتعذر الدفاع عنه عقلياً أيضاً.فوقوف مثل هذا الموقف هو اعتناقٌ للفكرة اللا منطقية القائلة بأن إرادة الإنسان حيادية وخارجية بالنسبة إلى الرغبة، وأنها بحد ذاتها لم تفسد من جراء الخطية، ولذلك تقرر بحرية هل تسترسل في تحقيق الرغبة أو لا. صحيح أن الاختبار يؤكد لنا انه من الممكن لشخص ما في عدة حالات، وعلى أساس اعتبارات شتى، كالعرف ومراعاة احترام المجتمع له وما شابه، أن يتغلب على رغبته الأثيمة بواسطة عقله وإرادته، فيحول دون تحقيق تلك الرغبة بشكل أفعالٍ أثيمة. حتى الإنسان الطبيعي أيضاً ما يزال يختبر صراعاً بين النزعة والواجب، والرغبة والضمير، والشهوة والعقل.
غير أن هذا الصراع يختلف من حيث المبدأ عن الصراع الذي يستمرُّ في الإنسان المولود ثانيةً بين الجسد والروح، بين الإنسان القديم والإنسان الجديد. ذلك أنه صراعٌ موجهٌ من الخارج لكبح جماح الشهوة، لكنه لا يغزو حصن القلب الداخلي، ولا يهاجم الشر في جذوره.و عليه، فهو صراعٌ قد يساهم في كبح الشهوة الشريرة ووضع حدود لها، إلا أنه لا يقوى على تطهيره داخلياً ولا على تجديد الإنسان. فإن الصفة الأثيمة الخاصة التي تتميز بها الشهوة لا تتغير البتة من جراء ذلك. وليس هذا كل ما في الأمر. فحتى لو استطاع العقل والإرادة أحياناً أن يكبحا جماح الرغبة والشهوة، فإن العقل والإرادة غالباً ما يُقْمَعَان ويُستعبَدان لخدمة الشهوة. إنهما لا يقفان ضدها في المبدأ، بل بطبيعتهما يُسَران بها، فيرعيانها ويعززانها، ويزكيانها. وليس بنادرٍ أن يسمحا بأن تجرفهما الشهوة إلى حدٍّ يحرم الإنسان كلَّ استقلالٍ ويُحيله عبداً لأهوائه. فالأفكار الشريرة والرغبات الشريرة تنبع من قلب الإنسان ثم تتقدم فتغشي الفهم بالظلام وتلوِّث الإرادة. ذلك أن القلب من الدهاء بحيث يستطيع أن يخدع حتى الرأس الفهيم.
إن هاتين المحاولتين لتفسير شمولية الإثم للجنس البشري كله تصلان في نهاية المطاف إلى هذه الحصيلة الواحدة: أنهما تبحثان عن علة ذلك في سقوط كلِّ إنسانٍ بمفرده. فحسب البيلاجيوسية، يسقط كلُّ إنسان بالاستقلال عن غيره، وهو يفعل ذلك إذ يختار حراً أن يقتدي بقدوة الآخرين السيئة. وبحسب شبه البيلاجيوسية، يسقط كلُّ إنسانٍ لوحده لأنه باختياره الشخصي يُدخِل الرغبة الموروثة، لكن غير الخاطئة، إلى حيِّز إرادته ويحيلها فعلاً خاطئاً. فكلتا النظريتين لا تُنصف الحقائق الخُلُقية المؤكدة في ضمير كل إنسان، وكلتاهما لا تفسر كيف يُمكن لطبيعة الإثم الشاملة التي تعمُّ الجنس البشري كلَّه أن تنشأ من ملايين الملايين من القرارات التي تتخذها الإرادة البشرية.
بيد أن هاتين النظريتين قد اكتسبتا في الزمن الحديث مؤيدين عديدين، وإن كانتا قد اتخذتا شكلاً جديداً ومختلفاً. وقد كان فيما مضى قومٌ يقولون بوجود سابقٍ للإنسان. غير أن للتأثيرات البوذية أعطت هذا المعتقد قوة دافعة كبيرة في السنين الأخيرة. فيفترض أن الإنسان عاش منذ الأزل، أو على الأقل قروناً قبل ظهوره على الأرض؛ وإلا ؛ وهنا يطالعنا شكلٌ من النظرية أكثر اتصافاً بالفلسفة - فيجب تمييز حياة الإنسان الحسية على الأرض عن ذلك الشكل السابق لوجوده القديم الذي يُمكن إدراكه جيداً وإن كان مستعصياً على التصور.
إلى هذه الفكرة يُضاف بُعد أن الناس، في وجودهم السابق هذا الفعلي أو المتصور، سقطوا جميعاً، كلُّ واحد منهم بمفرده، وأنهم عقاباً على ذلك يجب أن يعيشوا هنا على هذه الأرض في هذه الأجساد المادية الكثيفة. وبذلك يُعدِّون أنفسهم لحياةٍ أخرى فيما بعد ينالون في أثنائها مكافآت بحسب أعمالهم. وعلى ذلك، يوجد فقط ناموسٌ واحد تخضع له الحياة البشرية، قبل الحياة على الأرض وفي أثنائها وبعدها، ألا وهو ناموس المجازاة: فكلُّ إنسانٍ نال،وينال وسينال، ما اكتسبه بأعماله - كلٌّ يحصد ما زرع.
هذه الفكرة الفلسفية الهندية تلفت النظر لسبب كونها تنطلق بدهاء من افتراض مؤداه أن سقوط كل إنسان بمفرده في هذه الحياة الأرضية هو أمرٌ لا يمكن تصوُّره. إلا أنها في ما خلا ذلك لا تقدِّم أي تفسيرٍ لشمولية الإثم أكثر مما تقدِّم النظريةُ البيلاجيوسية. فهي إنما تدفع الصعوبة إلى الوراء فترةً، إذ تنقلها من هذه الحياة إلى حياة سابقة الوجود، حياةٍ اتفق أن أحداً لا يتذكر من أمرها شيئاً، وليس لها حتى أساسٌ واحد، وما هي في الواقع إلا ترَف خيالي. أضف أن التعليم بأن كل امرئ سيُجازى على ما قدمت يداه هو عقيدة ثقيلة الوطأة على الفقراء والمرضى، والبائسين والمحرومين. فهي عقيدة خالية من الرحمة، وتقوم في مفارقة قاتمة مع أشعة النعمة الإلهية التي يتحدَّث عنها الكتاب المقدس.
على أن الأمر الذي تجدر بنا ملاحظته على الخصوص في هذا المجال، هو أن الفلسفة الهندية تتفق تماماً مع العقيدة البيلاجيوسية في كونها تبحث عن اصل الإثم الشامل في سقوط كل إنسانٍ بمفرده. فكلتا النظريتين تتفقان على أن البشرية تتألف من مجموعٍ اعتباطي من النفوس التي تعيش منذ الأزل، أو على الأقل منذ قرونٍ عديدة ومديدة، بعضُها إلى جانب بعض، ولا علاقة لإحداها بالأخرى من حيث الأصل أو الجوهر، على كلٍّ منها أن تهتم بمصيرها الخاص. فكلُّ واحدة من هذه النفوس سقطت وحدها، وهي تنال أجرها الذي تستحق، وتبذل قصارى جهدها لتخليص ذاتها بقدر ما تقوى عليه. وما يقرب الناس بعضهم من بعض هو في الواقع الشقاء الذي فيه يتواجدون جميعاً، ولذلك فالشفقة أو العطف هي أسمى الفضائل. على أن لهذه النظرية مضموناً واضحاً بعد، وهو أن الذين يحيون حياةً محظوظة على الأرض يستطيعون أن يُركنوا إلى ناموس المجازاة ويفتخروا من ثم بفضائلهم، محتقرين غير المحظوظين يكونون -بموجب الناموس عينه - قد نالوا رغم كل شيءٍ ما يستحقون.
ينبغي لنا أن نحصل على نظرة واضحة في هذه الأمور، إذا كان لنا أن نقدِّر قيمة كلمة الله وما تُلقيه من ضوء ساطع على مسألة شمول الخطية للجنس البشري كله. فإن كلمة الله المقدسة لا تستريح قانعةً بالتوهمات أو التخيلات، بل تعترف بالحقائق الواقعة التي يُقرُّها الضمير ويوقِّرها. إذ لا يشير الكتاب المقدس - لا تصريحاً ولا تلميحاً - إلى وهم وجودٍ سابق لنفوس البشر قبل دخولها الحياة على الأرض، ولا أثر فيه أيضاً لما يدلُّ على سقوط كل إنسانٍ بمفرده، سواءٌ حدث ذلك السقوط المفترض قبل الحياة على الأرض أم في أثنائها وعوضاً عما تطرحه البوذية والبيلاجيوسية من حلول فردانية وذرية، يقدم الكتاب المقدس نظرةً عضوية تشمل الجنس البشري بكامله.
فالجنس البشري لا يتألف من تجمع نفوس فردة اجتمعت بالصدفة من كل ناحية في مكان محدد، واضطرت بسبب احتكاكاتنا العديدة، أن تتعايش على أفضل ما يُمكن، وبطريقة من الطرق، سواء كان ذلك نحو الأفضل أم نحو الأسوأ. بل إن الجنس البشري هو بالأحرى وحدةٌ واحدة، جسدٌ واحد له أعضاء كثيرة، أو شجرة واحدة لها أغصان كثيرة، أو مملكة واحدة فيها رعايا كثيرون. ليس أن البشرية ستصير وحدةً كهذه في المستقبل فقط، وذلك عن طريق اتحاد خارجي. بل إنها كانت هكذا منذ البدء، وهي ما تزال هكذا الآن على رغم الانفصال والانشقاق، لأن لها أصلاً واحداً وطبيعة واحدة. إنها واحدة عضوياً لأنها جاءت من دمٍ واحد. وهي واحدة قضائياً وخلقياً لأنها، على أساس الوحدة الطبيعية بالذات، قد وُضِعت تحت ناموس إلهي، هو ناموسُ عهد الأعمال.
ومن هذا تخلص كلمة الله المقدسة إلى أن البشرية تبقى واحدةً في سقوطها أيضاً. فهكذا ينظر الكتاب المقدس إلى البشرية. من أول صفحة فيه إلى آخر صفحة. وإذا كان من تمييزٍ بين البشر، من حيث الطبقة والمقام والوظيفة والكرامة والمواهب وما إلى ذلك، أو إذا كان إسرائيل قد مُيِّز من بين الشعوب وعلى خلافها بأن اختير ميراثاً للرب في القديم، فإنما يعود ذلك فقط إلى نعمة الله. فالنعمة وحدها هي التي تُجري التمييز (1 كورنثوس 4: 17). غير أن البشر أجمعين، في ذواتهم، سواسيةٌ أمام الله، لأنهم جميعاً خطاة، يشتركون في الذنوب العامة وتدنِّسُهُم النجاسة عينُهَا، فيخضعون للموت عينه ويحتاجون إلى الفداء الواحد بعينه. فقد شملهم الله جميعاً ضمن دائرة العصيان الواحدة، لكي يرحم الجميع على السواء (رومية 11: 32). فلا يحق لأحد أن يتيه كبراً، ولا يحق لأحدٍ أن يستسلم لليأس.
أما أن هذه هي نظرة الكتاب المقدس المستمرة في الجنس البشري فأمرٌ لا يحتاج إلى مزيد من المناقشة، وهو واضحٌ بما فيه الكفاية مما قُلناه آنفاً بخصوص شمولية خطية الإنسان، بيد أن وحدة الجنس البشري العضوية فيما يتعلق بالقانون والأخلاق، تخطى بمعالجة خاصة ومستفيضة من جانب الرسول بولس.
فبعد أن يعرض بولس أولاً، في رسالته إلى أهل رومية، حقيقة كون العالم كلِّه محكوماً عليه بالدينونة في نظر الله (رومية 1: 18 3: 20)، ثم يشرح بعدها كيف أن التبرير وغفران الخطايا والمصالحة والحياة قد تمت كلُّها بالمسيح وهي متوافرة فيه للمؤمن (رو 3: 21 - 5: 11)، ينتهي في الإصحاح الخامس والآيات (12 – 21) (قبل الانتقال إلى وصف الثمار العملية للبر الحاصل بالإيمان، وذلك في الإصحاح السادس) إلى إيجاز المضمون الكامل الذي يشتمل عليه الخلاصُ الذي ندين للمسيح بفضله. ويعقد مقابلة - في سياقٍ من تاريخ العالم - بين هذا الأمر وجميع المعاصي والمساوئ التي تراكمت علينا من جراء انتسابنا إلى آدم.
فيقول بولس إن الخطية، بإنسانٍ واحد، قد دخلت إلى العالم، ومعها اجتاز الموت إلى جميع الناس. إذ إن تلك الخطية التي ارتكبها الإنسان الأول كانت مختلفةً في طبيعتها عن سائر الخطايا الأخرى. فهي تُدعى تعدياً، وتختلف نوعاً عن الخطايا التي ارتكبها الناس في الزمان الممتد من آدم إلى موسى (رومية 5: 14)، لكونها خطيئة متعمَّدة سُمِّيت معصية (رو 5: 14 - 19)، وبذلك تشكل نقيضاً حاداً لإطاعة المسيح المطلقة التي اجتازت حتى امتحان الموت (رو 5: 19).
ولذلك، فالخطية التي ارتكبها آدم لم تبق مقتصرةً على شخصية فقط، بل تعدته ليستمر مفعولُها في الجنس البشري كُلِّه ومن خلاله. فإننا لا نقرأ أن الخطية بإنسان واحد دخلت إلى شخصٍ واحد، بل إلى العالم (رو 5: 12). وكذلك أيضاً الموتُ اجتاز إلى جميع الناس، وهذا حقٌّ، لأن جميع البشر أخطأوا في شخص ذلك الإنسان الواحد.
أما أن هذا هو فكر بولس فأمرٌ تمكن البرهنة عليه. بحقيقة كونه يستنتج من تعدي آدم موت الناس الذين عاشوا من آدم إلى موسى والذين ما كان ممكناً أن يرتكبوا خطية شبيهة بتعدي آدم (نظراً لأنه لم يكن آنذاك ناموسٌ محدد بوضوح كناموس العهد الذي ارتبط به شرطٌ معين وتهديد مبين).
ولكن إذا كان (رومية 5: 12) وما يلي يُخلِّف بعدُ أي شك في هذا الموضوع، فمن شأنه أن يزول بفضل مايقوله بولس في (1 كورنثوس 15: 22). ففي ذلك الموضع نقرأ أن الناس يموتون، لا في أنفسهم، ولا في آبائهم أو أجدادهم، بل في آدم. ومعنى هذا أن الناس ليسوا عرضة للموت بالدرجة الأولى لأنهم هم أو أجدادهم أذنبوا شخصياً، بل إنهم جميعاً ماتوا بالفعل في آدم. فقد تحتم للتو في خطية آدم وموته أن هؤلاء جميعاً سيموتون. وليس بيت القصيد أنهم فيه أصبحوا جميعاً مائتين، بل إنهم حقاً، وبعمنىً موضوعي، ماتوا فيه فعلاً. فحالئذٍ نُطِق بحكم الموت، وإن كان تنفيذه جاء في أعقاب ذلك، إذا جاز التعبير. والآن، لا يعترف بولس بأي موت سوى الموت الذي هو نتيجة الخطية (رو 6: 23). فإن كان جميع الناس ماتوا في آدم، فمعنى ذلك أنهم أيضاً أخطأوا فيه. وبتعدي آدم قُدِر للخطية والموت أن يدخلا العالم ويجتازا إلى جميع الناس، لأن ذلك التعدي كان ذا طبيعة خاصة. فهو كان تعدي قانونٍ محدد، ولم يجر هذا التعدي من قِبَل آدم وحده. بل من قِبَله بوصفه رأس الجنس البشري.
وحينما نفهم فكرة بولس في (رومية 5: 12 - 14) على هذا النحو، حينئذٍ فقط نستطيع أن نُنصف تمام الإنصاف ما يرد في الآيات التالية عن عواقب تعدي آدم. فالأمر كلُّه توسيعٌ لفكرة أساسية واحدة. إذ بخطية إنسان واحد (آدم) مات الكثيرون (أي جميع المتحدرين منه) (الآية 15). والحكم (أي حكم الدينونة الذي ينطق به الله بوصفه القاضي)، جزاء الذنب الذي ارتكبه هذا الواحد الذي أخطا، صار دينونةً تشمل الجنس البشري بكامله (الآية 16). وبخطية الواحد عينه قد ملك الموت في العالم على جميع البشر (الآية 17). وبخطية واحدٍ، صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة (الآية 18). وكخلاصة نهائية، بمعصية الإنسان الواحد جُعِل الكثيرون (جميع بني آدم) خطاةً. فبتلك المعصية جاءوا جميعاً ليقفوا أمام وجه الله بشراً خُطاة (الآية 19).
ويوضع الختم على هذا التفسير لفكرة بولس بالمقارنة التي يأتي بها ما بين آدم والمسيح. ففي سياق "رومية 5" لا يُعالج بولس أصل خطية آدم، بل بالأحرى الخلاص الكامل الذي أتمه المسيح. ولكي يعرض هذا الخلاص في كل مجده، يقارن ويفارق بينه وبين الخطية والموت اللذين عما الجنس البشري كلَّه انطلاقاً من آدم. وبكلامٍ آخر، يُتّخذ آدم في هذا السياق مثالاً للآتي (الآية 14).
ففي آدم الواحد، ومن جراء تعديه، صدر الحكم بالدينونة على الجنس البشري كله، وفي الإنسان الواحد يسوع المسيح صدر حكم قضائي من لدن الله يُعلن تحرير الجنس البشري وتبريره. وكما بإنسانٍ واحد دخلت الخطية إلى العالم كسلطة أو قوة سيطرت على جميع البشر، فكذلك حقّق إنسانٌ واحد سيادة النعمة الإلهية في البشرية. ومثلما بإنسانٍ واحد أيضاً، هو المسيح يسوع ربنا، بدأت النعمة تملك عن طريق برٍّ يؤدي إلى الحياة الأبدية. وهكذا تصدق المقارنة بين آدم والمسيح على جميع المقاييس. غير أن هنالك هذا الفرق الواحد: أن الخطية جبارة وقوية، ولكن النعمة أسمى منها جداً في غِناها ووفرتها.
وقد ضمن علم اللاهوت المسيحي عقيدة الخطية الأصلية هذه الأفكار المستفادة من الكتاب المقدس. وربما جال أحدٌ مناقضاً هذه العقيدة، أو أنكرها، أو استهزأ بها، غير أن أحداً لا يستطيع ردَّ شهادة الكلمة الإلهية ولا طمس الحقائق التي يقوم هذا التعليم على أساسها. فإن تاريخ العالم بكامله برهانٌ على حقيقة كون البشرية - سواءٌ بمجموعها أم بأفرادها - مذنبةً أمام وجه الله، ومالكةً لطبيعة مُفسدة أدبياً، ومعرضة كل حين للانحلال والموت. وعليه، فالخطية تتضمن - أول كلِّ شيء - حقيقة الذنب الأصلي. ففي الإنسان الأول قد جُعِل الكثيرون ممن خرجوا من صلبه أي نسله خُطاةً، وذلك من جراء معصيته وبحكمٍ عادلٍ من الله البار (رو 5: 18).
ثم إن الخطية الأصلية - ثانياً - الدنس الأصلي. فجميع البشر حُبل بهم وولدوا في الإثم (مزمور 51: 5)، وهم أشرار منذ حداثتهم (تكوين 6: 5؛ مز 25: 7)، لأنه لا أحد يستطيع أن يُخرج الطاهر من النجس (أيوب 14: 4؛ يوحنا 3: 6). وجرثومة الفساد والتلوث هذه لا تتفشى فقط في البشر كلِّهم، بل تُلوِّث أيضاً الكائن الفرد بكليَّته. فهي تضرب القلب الذي هو أخدع من كل شيء؛ والنجيس (أو الخبيث أي المصاب بمرض لا شفاء له)، والذي لن يُسبر غَوْرُ فساده (إرميا 17: 9)، والذي بوصفه نبع مخارج الحياة (أمثال 4: 23) هو أيضاً نبعٌ لكلِّ إثم وشر (مرقس 7: 21 و 22). وإذ ينبع هذا الفساد من القلب كمركزٍ له، يُغشي الفهم بالظلام (رومية 1: 21)، وينحرف بالإرادة نحو الشر ويجعلها عاجزة عن فعل ما هو صالحٌ حقاً (يوحنا 8: 34؛ رومية 8: )، ويدنِّس الضمير أو ينجسه (تيطس 1: 15)، ويجعل الجسد سلاح إثم بكامل أعضائه، من عينين وأذنين، ويدين ورجلين، وفم ولسان.. (رو 3: 13 – 17؛ 16: 13). فهذه الخطية هي على حال تجعل كل إنسان خاضعاً للموت والفساد، لا بسبب ما يُدعى خطاياه "الفعلية" بالدرجة الأولى، بل منذ الحبل به (رو 5: 14). إذ إن جميع البشر قد ماتوا حقاً في آدم (1 كورنثوس 15: 22).
ومهما بدا لنا الآن هذا المفهوم للخطية الأصلية صعباً، فإنها تقوم على أساس قانونٍ يتحكم في كامل الحياة البشرية ولا يستطيع أحدٌ أن ينجح في إنكار وجوده، ولا أحدد يُبدي تجاهه أي اعتراضٍ ما دام يعمل لمصلحته.
عندما يكون الوالدون قد جمعوا الممتلكات، من نوعٍ أو آخر، لمصلحة أولادهم، لا يعترض الأولاد قط على الاستيلاء على الأملاك التي يُخلِّفها لهم الآباء عند موتهم. فهم لا يعترضون على الحصول على الميراث مع أنهم لم يحصلِّوه بكدهم، ومع أنهم أحياناً يُثبتون بسلوكهم المخزي أنهم غير مستحقين له إن يتولَّونه ظلماً بإسرافٍ في عيشة الخلاعة. وإذا لم يكن للمتوفي أولاد، فإن الأقرباء الأباعد، كأحفاد الأخ أو الأخت وأبناء العمومة، يتقدمون دون أي تأنيب من الضمير للاشتراك في إرث خلَّفه على غير توقع أفراد من الأسرة مجهولون أو مغمورون. هذا كله يصح في مجال المقتنيات المادية. ولكن هنالك أيضاً خيرات معنوية، من قيم المراتب والمناصب، والشرف والصيت الحسن، والعلم والفن، يرثها الأبناء من الآباء، ولم يكسبوها بأي حال، إلا أنهم ينسبونها إلى أنفسهم دون اعتراض، ولهم بالحقيقة أن يفعلوا ذلك بامتنان. فمن الممكن أن يُقال إذاً إن قانون ميراث كهذا صالح للعمل به في الأُسر والأجيال والشعوب، وفي الدولة والمجتمع، والعلم والفن، وفي البشرية جمعاء. ذلك أن الجيل اللاحق يعيش على الخيرات التي ادخرها الجيل السابق، والأحفاد يتولون في ميادين الحياة جميعاً العمل الذي كان الأجداد يقومون به. وليس من إنسانٍ واحد، مادام الأمر نافعاً له، يُبدي اعتراضاً على هذا الترتيب الإلهي الكريم.
على أن كل شيء يتغير حينما يعمل قانون الميراث هذا بعينه لغير مصلحة الإنسان المعني. فعندما يُناشد الأولاد أن يعولوا والديهم الفقراء، فإنهم يقطعون حالاً كل علاقة بوالديهم ويُشيرون إلى سبيل المؤسسات الكنسية أو الخيرية التي تهتم بإغاثة المحتاجين. وعندما يشعر الأقرباء بأن كرامتهم قد أهدرت لأن أحد أفراد الأسرة تزوج بحسب رأيهم، زواجاً دون المستوى اللائق، أو فعل فعلةً شائنة، فإنهم يتركونه حالاً في ورطته ويُبدون له عدم الرضى. فإلى حدٍّ ما، توجد في كل إنسانٍ نزعةٌ لأن يتمتع بفوائد الاندماج في الجماعة وبمنافع علاقات القُربى المتبادلة، مع رفض ما يقابل ذلك من واجبات. إلا أن هذه النزعة، في حد ذاتها، هي برهانٌ قوي على الحقيقة المماثلة في وجود مجموعة متوافقة من الامتيازات والواجبات فثمة وحدةُ حالٍ وتكافل أو تضامن مشترك لا يستطيع أحدٌ أن يُنكر وجودهما وفاعليتهما.
وحقيقة نحن لا نعرف بالتمام كيف يعمل هذا التكافل ويُحدث تأثيره. فما زلنا نجهل مثلاً حقيقة قوانين الميراث التي بموجبها تؤول الخيرات المادية والمعنوية من الآباء إلى الأبناء. فنحن لا نفهم هذا السر: كيف يُتاح لشخص فرد، يُولد في الأسرة ويتربى على يدها، أن يبلغ حالة استقلالٍ وحرية، ومن ثم يحتل في الأسرة مركزه الخاص الذي يكون أحياناً متميزاً بالقوة والنفوذ. وليس في وسعنا أن نُشير إلى الحد الفاصل الذي عنده يتوقف التكافل ويبدأ الاستقلال الشخصي والمسؤولية الفردية. غير أن هذا كُلَّه لا يغير شيئاً من حقيقة وجود مثل هذا التضامن وكون الناس متحدين بعضهم ببعض في تكافل حقيقي، سواء كان ذلك في أسرٍ صغيرة أو كبيرة تجمعها علاقاتٌ متبادلة فلا شك أن الأفراد موجودون، ولكن هنالك أيضاً رابطة غير منظورة تجمع الأسر والأجيال والشعوب في وحدة قوية.وكما أن للإنسان نفساً واحدة، فالشعوب أيضاً لها "نفس" قوية أو جامعة، بمعنى مجازي طبعاً. هنالك خصائص شخصية ولكن ثمة أيضاً خصائص اجتماعية تتميز بها دائرة معينة من الناس. وهنالك خطايا فردية خاصة، ولكن توجد أيضاً خطايا اجتماعية عامة. كذلك أيضاً توجد ذنوب فردية، ولكن هنالك أيضاً ذنوب اجتماعية مشتركة.
وهذا التكافل الذي يتبدى بألف طريقة وطريقة في العلاقات ما بين الناس يحمل معه مرةً تلو الأخرى، وعلى نحوٍ طبيعي،فكرة تمثيل الأقلية للأكثرية.فنحن لا نستطيع أن نكون حاضرين عند كل شيء بأنفسنا ولا أن نقوم بكل شيء شخصياً. إذ أن الناس منتشرون على وجه الأرض كلِّها ويعيشون بعيدين بعضهم عن بعضهم مسافاتٍ شاسعةٍ. وهم لا يعيشون معاً في وقت واحد بل يعقب بعضهم بعضاً في أجيالٍ متتالية ثم إنهم ليسوا جميعاً متساوين في القدرة والحكمة. وهم يختلفون إلى ما لا نهاية في المواهب والقدرات. من هنا يُدعى في كل حين بعض الأقلاء إلى التفكير والتكلُّم، أو على التقرير والتصرف، باسم الأكثرية أو نيابة عنها. وفي الواقع إنه لا يمكن إقامة أسرة مجتمعٍ حقيقية بغير تفاوت في المواهب والمهمات ودون تمثيل وإنابة. فما من جسمٍ يمكن التواجد إلا إذا كانت فيه عدة أعضاء مختلفة وكانت جميع تلك الأعضاء خاضعةً لسيطرة رأس يفكر عنها ويتخذ القرارات باسمها جميعاً. ومثل هذا الدور يتولاه الأب في الأسرة، والمدير في المؤسسة ومجلس الإدارة في الجمعية، والقائد في جيشه، والمجلس النيابي أو البرلمان بالنسبة للذين يمثلهم، والملك بالنسبة إلى رعاياه. ثم إن المرؤوسين يشتركون في عواقب تصرفات ممثليهم.
على أن ذلك كُلَّه يعني فقط دائرة صغيرة ومحدودة من البشرية. وفي دائرة كهذه يستطيع إنسان واحد، إلى حدٍّ ما، أن يكون لكثيرين إما بركةً وإما لعنةً، غير أن الآثار تبقى، رغم ذلك، مقصورة على نطاق مقيد على نحوٍ لا بأس به. حتى أن إنساناً ذا سلطان مثل نابليون، وإن لم يكن نطاق سلطته ونفوذه كبيراً بهذا المقدار، لا يحتلُّ في تاريخ العالم إلا مكاناً يسيراً، ويكون له دورٌ عابرٌ وحسب. غير أن الكتاب المقدس يحدثنا عن شخصين شغلا مكانةً خاصة، كلاهما وقف على رأس الجنس البشير بكامله، وله قوة ونفوذ لا يمتدان إلى أمة أو مجموعة من الأمم فقط، ولا إلى بلد أو قارة فحسب ولا على مدى قرنً واحدً أو عدة قرونٍ محدودة، بل يشملان البشرية بكاملها ويصلان إلى أقاصي الأرض ويدومان مدى الأبدية. هذان الشخصان هما آدم والمسيح.أولهما يقف عند بداية التاريخ، أم الثاني ففي وسطه. الأول يقف رأس البشرية القديمة، أما الثاني فرأس الخليقة الجديدة. الأول مصدر الخطية والموت في العالم، أما الثاني فينبوع البر ومعين الحياة.
فبفضل المقامين الفريدين اللذين لهذين الشخصين على رأس البشرية، من الممكن مقارنة أحدهما بالآخر. فإن بينهما تناظُراً أو تماثُلاً من حيث المكانة والأهمية والتأثير النافذ، في جميع أشكال التكافل الظاهرة بين الناس، من أسرة وعشيرة وقبيلة وأمة ونحوها. ثم إنه يُمكن ويجوز أن يُستعان بجميع وجوه هذا التناظر أو التماثل لإلقاء الأضواء الكاشفة على التأثير الذي كان لكلٍّ من آدم والمسيح في لجنس البشري كلِّه. وفي هذا ما يُقنعنا، إلى حد معين، بصلاحية عمل قانون الميراث حتى في مجال حياتنا العُليا، أعني في حياتنا الدينية والخُلقية، مادام هذا القانون لا يقوم وحده بل هو وثيق الصلة بالبشر عموماً لكونه جزءاً لايتجزأ من وجود البشرية العضوي. فآدم والمسيح، مع ذلك، يشغلان على السواء مكانة فريدة كلياً. وكلاهما ذو أهمية بالنسبة إلى الجنس البشري لا يمكن أن يُحرِز مثلها البتة أيُّ واحد من فاتحي العالم أو عباقرته الأفذاذ. والميراث الذي به شملنا آدم أجمعين بتعديه، هو وحده يجعل من الممكن لنا أن نتصالح كلياً مع الله في المسيح.
فرغم كل شيء، هو القانون عينُه يديننا في الإنسان الأول ويُبرئنا في الإنسان الثاني، فلو لم يكن ممكناً لنا، دون علمٍ منا، أن نتشارك في دينونة آدم، لما كان ممكناً لنا أيضاً، بالطريقة نفسها أن نُمنحَ من جديد قبولاً بالنعمة في المسيح. وإذا لم يكن لدينا اعتراضٌ على أخذ حسنات لم نكتسبها بل آلت إلينا على سبيل الهبة أو الإرث، فلا حق لنا أن نستعفي من ذلك الميراث وندافعه حين يحمل إلينا السوء. أالخير نقبل من يد الله، والشر لا نقبل؟ (أيوب 2: 10). فلا نتهمنَ آدم بالذنب إذاً، بل بالأحرى لنشكر المسيح الذي أحبنا محبة تفوق الوصف. ولا ننظرن للوراء إلى الجنة، بل للأمام إلى الصليب. إذ وراء ذياك الصليب ذلك الإكليلُ الذي لن يفنى أبداً.
ليست الخطية الأصلية التي فيها يحبل بالإنسان ويولد صفةً سلبية هامدة، بل هي بالأحرى أصلٌ تطلع منه جميع أنواع الخطية، نبعٌ نجسٌ تنبع منه الخطية باستمرار، قوة تشد قلب الإنسان دائماً في الاتجاه الخاطئ - بعيداً عن الله وعن الشركة معه وفي اتجاه الفساد والانحلال. عن هذه الخطية الأصلية، إذاً، ينبغي تمييز تلك الخطايا التي تُدعى في العادة فعلية، وضمنها جميع تعديات الناموس الإلهي التي يرتكبها الفرد شخصياً، وإن كانت متفاوتة في درجة تعُّمدها واشتراك الإرادة في ارتكابها. فلكل الخطايا من هذا القبيل اصلٌ واحد مشترك، إذ تنبع كلُّها من قلب الإنسان (مرقس 7: 23). والقلب البشري هو هو عند كل الشعوب وفي كل مكان وزمان، ما دام بالطبع لم يتغير بالرجوع إلى الله والتجديد. فإن طبيعة بشرية واحدة يشترك فيها كل نسل آدم، وهي في جميع الناس مذنبة ومدنسة. وعليه، فلا داعي البتة لأن ينفصل المرء عن الآخرين قائلاًً: "ابعد عني، أنا أقدس منك". فبالنظر إلى الطبيعة البشرية الواحدة التي يشترك فيها الجميع، لا يعود من مسوِّغٍ البتة لتكبُّر البار في عيني نفسه، ولا لتعظُّم الشريف، ولا لتمجيد الحكيم لذاته. ومن بين آلاف الخطايا الموجودة لا توجد واحدة يستطيع أحد أن يقول إنه غريب عنها تماماً ولا علاقة له بها. فبذور الآثام كلِّها، حتى أكثرها شناعة، تكمن في القلب الذي يحمله كلٌّ منا في أحشائه. وليس الآثمون والمجرمون جنساً خاصاً، بل إنهم يطلعون من المجتمع الذي نحن جميعاً أعضاءٌ فيه. فهؤلاء، إنما يعرضون علناً ما يجيش دائماً ويعتمل في المركز الخفي لكل إنسان، أي في القلب.
وما دامت جميع الخطايا تطلع من أصل واحد، فإنها كلَّها ترتبط عضوياً بعضها ببعض، سواءٌ كانت في حياة كل إنسان بمفرده، أو في حياة أسرة أو جيل أو عرق أو شعب أو مجتمع، أو في حياة البشرية كلِّها. والحق إن الخطايا لا يُحصى عددها، بحيث حاول البعض أن يصنفوها أو يبوبوها، فتحدثوا عن سبع من الكبائر أو الخطايا الرئيسية (الكبرياء، الجشع، الإدمان، عدم العفة أو الفجور، الكسل، الحسد، الغضب). أو صنفها بعضُهم بحسب الإرادة التي بها يُرتكب، فميزوا بين خطايا الفكر والقول والفعل، أو خطايا العرض وخطايا الروح. وبابها آخرون أحياناً بحسب الوصايا التي تشكل مخالفةً لها، فقالوا: خطايا ضد الوصايا التي وردت في اللوح الأول من الوصايا، وخطايا ضد ما ورد في اللوح الثاني، والمعنى: خطايا ضد الله، وخطايا ضد القريب والنفس. أو جرى تصنيفها بحسب الشكل الذي به تم التعبير عنها، فقيل: خطايا إهمال، وخطايا أفعال. ثم كان أيضاً تمييز في الدرجة، فقيل: خطايا سرية أو علنية، وخطايا بشرية أو شيطانية، وما إلى ذلك.
ولئن اختلفت الخطايا بعضُها عن بعض، فهي لا تقوم وحدها البتة كأشياء ذات كيانٍ كيفي بعضها منفصلٌ عن بعض، فإنها دائماً مترابطة في أساسها بحيث تؤثِّر إحداهما في الأخرى وتخلِّف فيها أثرها. فكما في حال المريض يبقي قانون الحياة السليمة عاملاً لكنه ينشط آنذاك في صورة مضطربة، كذلك تكون الخطية تعبيراً عن الصفة العضوية المميزة لحياة الإنسان والبشرية. والتعبير الذي تظهر به الخطية إنما يُبين أن الحياة الآن تتطور في اتجاه معاكسٍ على خطٍّ مستقيم لما قُصد أصلاً.
فما أشبه الخطية بسطح زّلِق، إذ لا يمكننا أن نسير عليه مسافة ثم نلتفت عند نقطة نختارها كيفما اتّفق وعندئذ نعكس خط سيرنا. وقد أحسن أحد الشعراء الأفذاذ إذ نمَّ عن حصافة وبراعة في وصف لعنة الفعل الشرير فقال فيه إنه ما ينفكُّ يلد الشر. وكلمة الله المقدسة تُلقي أمامنا ضوءاً عارماً على هذه المسألة. ففي (يعقوب 1: 14 و 15) نجد تفسيراً لكيفية نشوء الفعل الأثيم في الإنسان بطريقة عضوية. فحينما يجرَّب أحدٌ بالشر، لا يكون سببُ ذلك عائداً إلى الله. بل هو كامنٌ في شهوة الإنسان بالذات. هذه الشهوة هي أم الخطية. على أن هذه الشهوة في حد ذاتها لا تكفي لإنتاج الخطية (أي الفعل الخاطئ، سواءٌ بالفكر أو القول أو العمل). فلا بد من أن تحبل الشهوة. وذلك يحدث حينما يتحد العقل والإرادة بالشهوة. فحينئذ، حين تُخصب الإرادة الشهوة، تلد الشهوة خطية، أي فعلاً خاطئاً، وهذه الخطية بدورها، إذ تنمو وتتطور وتبلغ أشدها، تُنتج موتاً.
هكذا هي حال كل خطية بمفردها، ولكنها أيضاً حال الترابط المتبادل بين مختلف الخطايا. فالرسول يعقوب يُشير أيضاً إلى هذه الحقيقة حيث يقول في (2: 10) من رسالته إن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في نقطة واحدة فقد صار مجرماً في الكل، لأن الذي وضع هذه الوصية هو بعينه الذي وضع الكل. ففي الوصية الواحدة المعنية يشن المتعدي هجومه على معطي الوصايا كلِّها. وبذلك يُطيح كل سلطان وكل قوة. فبفضل مصدر الناموس وطبيعته أو جوهره، هو ناموس واحد. إنه جسمٌ عضويٌّ واحد إذا انتُهك في واحد من أعضائه، صار كله مشوهاً. وهو سلسلة إذا ما انقطعت إحدى حلقاتها، انفرط عقدها. فالشخص الذي يتعدى في واحدة من الوصايا، يُنحي جانباً - من حيث المبدأ - الوصايا كلَّها، وهكذا يصير من سيئ إلى أسوأ. إنه يصير، على حد قول المسيح، عبداً للخطية (يوحنا 8: 34)، أو يكون - كما قال بولس - مبيعاً تحت سيادة الخطية، بحيث لا يكون أكثر استقلالاً عن الخطية مما يكون العبد بالنسبة إلى السيد الذي قد اشتراه (رومية 7: 14).
هذه النظرة العضوية تنسحب أيضاً على الخطايا التي تظهر في ميادين خاصة من الحياة البشرية. فهنالك خطايا شخصية وفردية، إلا أن هنالك أيضاً خطايا اجتماعية عامة، وهي خطايا أُسَرٍ أو أُممٍ معينة أو ما شابه. إذ إن كل رتبة ومنصب في المجتمع، وكلَّ مهنة ومصلحة، وكلَّ وظيفة، تصطحب أخطارها الخاصة بها وخطاياها التابعة لها. فالخطايا تختلف بين أهل المدينة وأهل القرية، بين الفلاحين، والتجار، المثقفين والأميين، الأغنياء والفقراء، الصغار والراشدين. على أن هذا الواقع يُفضي أيضاً إلى البرهنة على أن جميع الخطايا في كل دائرةٍ من الدوائر تتعلق إحداها بالأخرى ويستند بعضُها إلى بعض. وكما يتبين لنا، فنحن لا نلاحظ إلا جزءاً يسيراً جداً من خطايا المجموعة المحدودة الخاصة بنا، ولا نلاحظ ذلك إلا سطحياً. ولكن إذا قُدِّر لنا أن ننفذ إلى الجوهر الكامن وراء المظاهر، مترسمين أصل الخطايا في قلوب الناس، فإننا على أكثر احتمال سننتهي، ولا بد، إلى الاستنتاج أن في الخطية أيضاً وحدةً ومثالاً وتصميماً ونموذجاً - وبعبارة أخرى- إن في الخطية أيضاً نظاماً أو جهازاً.
يُميط الكتاب المقدس جزءاً من اللثام إذ يُنيط الخطية بمملكة الشيطان، سواء من حيث أصلها وتطورها واكتمالها. فبما أن الشيطان قد أغوى الإنسان وحمله على السقوط (يوحنا 8: 44)، فقد أصبح - بمعنى أدبي - رئيس العالم وإله هذا الدهر (يو 16: 11؛ 2 كورنثوس 4: 4). ومع أن المسيح قد حكم عليه وطرده خارجاً (يو 12: 31؛ 16: 11)، ولذلك ينشط في العالم الوثني بصورة رئيسية (أعمال 26: 18؛ أفسس 2: 2)، فهو يستمر رغم ذلك في مهاجمة الكنيسة من الخارج. ولذا ينبغي على الكنيسة أن تخوض بكامل سلاحها غمار الحرب الروحية ضده (أفسس 6: 11). وينظم الشيطان موارده الإجمالية لكي يشن في آخر الأيام هجوماً نهائياً وحاسماً على المسيح ومملكته (رؤيا 12 وما يلي). فليس حينما نركز اهتمامنا على خطية بعينها أو على خطايا شخصٍ معين أو شعبٍ مخصوص، بل بالأحرى حين نربط الخطية بكامل مداها في البشرية، مستفيدين من الضوء الذي يُلقيه عليها الكتاب المقدس، حينئذ نفهم لأول مرة طبيعة الخطية الحقيقية ومقصدها. فهي في مبدأها وجوهرها، ليست أقل من كونها عداوة لله، وهي لا تهدف فيا لعالم إلى أقل من السيطرة المطلقة. وكل خطية، حتى الصغرى، لكونها بالحقيقة تعدياً لناموس الله، إنما تخدم هذا الغرض النهائي فيما يتعلق بالنظام كله. فليس تاريخ العالم عملية تطورية تسير على غير هدى، بل هو مأساة رهيبة، جهادٌ روحي مداه طوال العصور، حربٌ بين الروح الذي من فوق والروح الذي تحت، بين المسيح وضد المسيح، بين الله والشيطان.
على أن هذه النظرة إلى الخطية، وإن كان يجب أن تحظى بالاعتبار الأولي، ينبغي ألا تُغرينا باتخاذ موقفٍ متحيز، وألا تطمس التمايز الذي يفصل بين مختلف الخطايا. صحيحٌ أن الخطايا، شأنها شأن الفضائل، هي وحدةٌ لا تنقسم، وأن الذي يرتكب واحدةً منها يكون قد ارتكبها جميعاً من حيث المبدأ (يعقوب 2: 10) إلا أن هذا لا يعني أن الخطايا جميعها متساوية نوعاً ودرجةً. فثمة فرق بين خطايا السهو أو الجهل وخطايا التعمُّد (عدد 15: 27 و30)، بين الخطايا ضد اللوح الأول من الوصايا والخطايا ضد اللوح الثاني (متى 22: 37 و 38)، وهناك فرق بين الخطايا الحسية والروحية، والخطايا البشرية والشيطانية، وهكذا دواليك. ولأن وصايا الناموس الواحد تختلف إحداهما عن الأخرى، وتعدي هذه الوصايا يمكن أن يحدث في ظروفٍ مختلفة وبموافقةٍ من الإرادة متفاوتة الدرجات، فلذلك ليست جميع الخطايا خطيرةً بالتساوي ولا هي تستحق العقاب نفسه. فالخطايا المرتكبة ضد الناموس الأدبي أخطر من تلك المرتكبة ضد النوامس الطقسية، لأن الطاعة أفضل من الذبيحة (1 صموئيل 15: 22). والشخص الذي يسرق بدافعٍ من الجوع أقلُّ ذنباً من الذي يحدوه الجشع (أمثال 6: 30). والغضب درجات (متى 5: 22). وبينما اشتهاءُ المرء لامرأة متزوجة في قلبه هو ارتكابٌ للزنى، فإن الذي لا يُقاوم مثل هذه الشهوة بل يستسلم لها يمضي إلى ارتكاب الزنى بالفعل أيضاً.
وإذا كنا لا نعدل في التمييز بين الخطايا، فإننا ندخل في نزاعٍ مع الكتاب المقدس والواقع. صحيحٌ أن الناس، بمعنى أدبي، يولدون متساويين؛ فهم في بداية أمرهم يحملون الذنب نفسه ويتنجسون بالدنس عينه. غير أنهم عندما يكبرون يختلف أحدُهم عن الآخر، ويكون اختلافُهم بيّناً. حتى المؤمنون يقعون أحياناً في خطايا فادحة، وينبغي لهم أن يحاربوا كل حين الإنسان العتيق الذي في طبيعتهم، ولا يتأتى لهم على هذه الأرض إلا تحقيق بداءة يسيرة من الطاعة الكاملة. وبين الذين يعرفوا اسم المسيح، أو لم يؤمنوا به، قومٌ يستسلمون لكل نزوةٍ من نزوات الفجور ويشربون الإثم كالماء. ولكن بين أولئك عديدين ممن يميزون أنفسهم بحياةٍ محترمة اجتماعياً ورفيعة أدبياً، بحيث يصلح أن يكونوا نماذج في الفضيلة حتى للمسيحيين الحقيقيين. حقاً إن بذور الشر كانت في كل قلبٍ بشري، وكُلَّما ازددنا معرفةً بذواتنا تأكد لنا حقُّ الاعتراف أننا بالطبيعة ميالون إلى كره الله والقريب وغير قادرين على أي صلاح ونزاعون إلى كلِّ شر. غير أن هذه النزعة الشريرة لا تصل بجميع الناس، على حد سواء، إلى نقطة ارتكاب الأعمال الشريرة. فليس جميع السائرين في الطريق الرحب يسيرون بالسرعة عينها أو يتقدمون التقدم نفسه.
أما سبب هذا التفاوت فليس كامناً في الإنسان، بل في نعمة الله الضابطة. فالقلب هو هو في الناس أجمعين. إذ في كل زمان ومكان تطلع في جميع البشر التصورات والرغبات الشريرة عينُها. وتصورات القلب إنما هي شريرةٌ منذ الحداثة. ولو تخلى الله عن البشر وأسلمهم إلى أهواء قلوبهم، لصارت الأرض جحيماً ولم يكن يُطاق مجتمع بشري ولا تاريخ بشري. ولكن مثلما تبقى النار في جوف الأرض مكبوتة بفعل قشرة الأرض اللبة، بحيث لا تتفجر في صورة ثورات بركانية رهيبة إلا بين حينٍ وآخر وفي أماكن محدودة، فكذلك تبقى الأفكار والشهوات الشريرة داخل القلب البشري مكبوتةً ومقيدة من كل ناحية بفعل الحياة الاجتماعية. فالله لم يُلقِ حبل الإنسان على غاربه، بل يجعل الحيوان الوحشي الذي في داخل الإنسان مشدوداً بزمام ولجام، وذلك في سبيل أن يحفظ تعالى مشورته من جهة الجنس البشري ويتمِّمها. إذ يُبقي الله في داخل الإنسان على عمل المحبة الطبيعية، والشوق إلى العشرة، والإحساس الديني والخُلُقي، والضمير وفكرة القانون، والعقل والإرادة. ثم يضع تعالى الإنسان في أسرة ومجتمع ودولة تعمل جميعها على ضبطه وإلزامه وتدريبه كي يعيش حياة محترمة مدنياً واجتماعياً. وذلك بما تشيعه تلك المؤسسات من رأي عام، ومفاهيم عن الكرامة والشرف، ورغبةٍ في العمل، ونظامٍ وانضباط، وقانونٍ وعقاب، وما إلى هذا.
بواسطة هذه العوامل العديدة والفعالة كلِّها، يُتاح للإنسان الخاطئ، رُغم كل شيء، أن يحقق خيراً كثيراً. فعندما تقول العقيدة المعروفة "بإقرار إيمان هايدلبرج" إن الإنسان عاجزٌ كلياً عن فعل أي خير وميالٌ إلى كل شر، تقصد بهذا الخير - على حد ما تُبين بكل وضوحٍ بنود الرد على المعترضين - الخير المخلِّص.
ذلك أن الإنسان بالطبيعة عاجزٌ كلياً عن فعل أي خير من شأنه أن يخلِّصه. فلا قِبَل له بعمل أي صلاحٍ يكون خيراً روحياً داخلياً، نقياً في نظر الله الفاحص القلوب، خيراً ينسجم انسجاماً كلياً - بمعنىً روحيٍّ وحرفيٍّ على السواء - مع مطالب الناموس، وبالتالي يكسب له الحياة الأبدية والسعادة السماوية بحسب وعد ذلك الناموس. ولكننا لا نقصد بهذا على الإطلاق أن ليس للإنسان، بنعمة الله المشتركة، أن يكون في وضعٍ يعمل فيه على تحقيق كثيرٍ من الخير. ففي حياته الشخصية، يمكنه أن يكبح، بعقله وإرادته، تصوراته الشريرة وشهواته الرديئة، وينصرف إلى الفضيلة. وفي حياته العائلية والاجتماعية، يستطيع أن يفي بالتزاماته، باستقامةٍ وأمانة، ويُساهم في نشر الخير العام والحضارة، وفي تقدم العلم والفن. باختصار، فإن الله يمكِّن الإنسان من أن يحيا هنا على الأرض حياةً بشرية صالحة، وذلك بواسطة جميع القوى التي يُحيط تعالى الإنسان الطبيعي الخاطئ بها.
على أن هذه القوى كلَّها لا تكفي لتجديد الإنسان داخلياً، وغالباً ما يتبين أنها غير وافية، ولو لضبط الإثم ضمن حدود. وليس علينا هنا أن نفكر فقط، في هذا الإطار، في عالم الجريمة الذي يوجد في كل مجتمع والذي يحيا حياته الخاصة. إذ أن ذلك واضح أحياناً في الفتوحات وحركات الاستعمار، والحروب الدينية والعِرقية، والثورات الشعبية والقومية، وما إلى ذلك، حيث يتبدى للعيان ما في القلب البشري من إثمٍ رهيب لا يسبر غوره. أما تهذيب الحضارة فلا يستأصل الشر المتأصل في القلب، بل بالأحرى يُنشئ صفاقةً في تنفيذ الإثم. حتى أنبلُ الأعمال ظاهرياً، إذا ما فُحصت عن كثب، لا يندر أن يكون قد دفع إليها أنواعٌ شتى من الاعتبارات الآثمة من أنانية وطموح قتال. وأيُّ من يفهم شيئاً من أمر شرِّ القلب البشري وخداعه، لا يُدهش البتة إزاء وجود شرٍّ في العالم كثير بهذا المقدار. بل إنه بالأحرى ليتعجب من كون خيرٍ كثيرٍ بهذا المقدار ما زال موجوداً في العالم، ويسجد لحكمة الله الذي يعرف دائماً كيف يُنجز هذا المقدار العظيم بمثل هذا الجنس البشري. إنه من إحسانات الرب أننا لم نَفْنَ، لأن مراحمه لا تزول (مراثي إرميا 3: 22). أجل، إن الصراع المتواصل بين خطية البشر التي تحاول أن تتفجر ونعمة الله التي تقمعها وتُحيل فكر البشر وفعلهم إلى خدمة مشورته وقصده تعالى.
ففي وسع نعمة الله هذه أن تحمل الإنسان على الاتضاع، ولو كان ذلك فقط بمعنى ما حصل لآخاب (1 ملوك 21: 29) ولأهل نينوى (يونان 3: 5 وما يلي). ولكن من الممكن أيضاً، على المدى البعيد، أن يقاوم الإنسان هذه النعمة. في تلك الحال تحدث الظاهرة الرهيبة التي تدعوها الكلمة المقدسة تقسية القلب، ومثَلُها النموذجي فرعون. وبينما تنسب كلمة الله التقسية إلى آخرين أيضاً، تظهر بأجلى بيانٍ طبيعة التقسية وتطورها في حالة فرعون. فقد كان رئيساً مقتدراً ورأساً لمملكة عظيمة، متكبر القلب وغير راغبٍ في الانحناء أمام آيات قدرة الله. وقد حدثت هذه الآيات واحدة إثر واحدة، وكانت تزداد في قوتها المعجزية وفاعليتها الفتاكة. ولكن فرعون، حسب الموجة التصعيدية عنها، ازداد شراً وعناداً. وأخذت اقتراحاته بأن يستسلم وينحني أمام هذه القوة المعجزية، تفقد شيئاً فشيئاً طابَع الصدق. وإذا به أخيراً يُسارع الخطو إلى مصيره المحتوم وعيناه مفتوحتان على الحقائق القاطعة.
وفي مأساة فرعون هذه، نرى بأم العين صراع نفس هائلاً، صراعاً تُمكن رؤيته من جانب الله كما من جانب الإنسان. فمرة يُقال إن الرب قسَّى قلب فرعون،[61] ومرة أخرى إن فرعون نفسه قسَّى قلبه، [62] أو إن قلبه تقسَّى.[63] ففي ظاهرة التقسية هذه عملٌ إلهي وآخر بشري؛ فيها عملٌ للنعمة الإلهية التي تصير باستمرار أكثر فأكثر ميلاً إلى الدينونة، وعملٌ للمقاومة البشرية التي تصير بطبيعتها أكثر فأكثر اتصافاً بأنها عداوةٌ لله واعيةٌ متعمدة. وبهذه الطريقة نفسها يصف الكتاب المقدس هذه التقسية في مواضع أخرى. ففي (تثنية 2: 30) و (يشوع 11: 20) و (إشعياء 63: 17)، الرب هو من يُقسّي. وفي مواضع أخرى، [64] الناس يُقسُّون أنفسهم. فهنا تفاعلٌ متبادل وصراعٌ أو نزاعٌ بين الأمرين لا ينبغي فصله عن إعلان النعمة الإلهية. هذا التفاعل مرتبطٌ بالإعلان العام، غير أنه - على وجه الخصوص - يعود إلى نعمة خاصة لها مزيةُ الإتيان بالدينونة وإحلالُ فصل أو تفرقة بين الناس (يوحنا 1: 5؛ 3: 19؛ 9: 39). حتى إن المسيح قد وضع لسقوط كثيرين وقيام كثيرين (لوقا 2: 34). فهو صخرة خلاص، وصخرة عثرة وصدمة (متى 21: 44؛ رو 9: 32). والإنجيل أيضاً يُفضي إما إلى موت وإما إلى حياة (2 كورنثوس 2: 16)، ومضمونه مخفي عن الحكماء والفهماء ومعلَن للأطفال (متى 11: 25). وفي هذا كله تتوضح مشورة الله ومسرة صلاحه، كما يتوضح في الوقت ذاته ناموس الحياة الدينية والأدبية.
ثم إن خطية التقسية تبلغ ذروتها القصوى في التجديف على الروح القدس. وعن هذا الموضوع يتحدث المسيح في مناسبة خلافٍ جذري مع الفريسيين. فبعدما شفى إنساناً كان أعمى وأخرس ومسكوناً من قبَل إبليس، دُهش الجمهور الحاضر جداً حتى هتفوا: أليس هذا هو ابن داود، المسيّا الذي وعد به الله آباءنا؟
إلا أن هذا الإكرام المقدم للمسيح لم يُثِر بين الفريسيين غير البغضاء والعداء، فصرحوا - على عكس الجموع - أن المسيح ما طرد إبليس إلا ببعلزبول رئيس الشياطين. وبذا وقفوا موقفاً مناقضاً لموقف الجموع كلياً. بدلاً من أن يعترفوا بيسوع أنه المسيح ابن الله وقد طرد الشياطين بروح إله وأسس ملكوت الله على الأرض، قالوا إن المسيح شريكٌ للشيطان وإن عمله شيطاني. وفي وجه هذا التجديف الرهيب حافظ المسيح على كرامته. فقد رد التهمة وبيَّن كم هي غير منطقية، إلا أنه في نهاية دفاعه زاد هذا التحذير الخطر على ما قاله: كل خطية وتجديف يُغفر للناس؛ أما التجديف على الروح القدس فلن يُغفر للناس .. لا في العالم ولا في الآتي (متى 12: 31 و 32).
إن هذه الكلمات في حد ذاتها، والسياق الذي ترد فيه، تبين بوضوح أن التجديف على الروح القدس لا يحدث في بداية طريق الخطية ولا في وسطها بل في نهايتها. وليس قوام هذه الخطية الشك أو عدم الإيمان في الحق الذي أعلنه الله، ولا مقاومةُ الروح القدس وإحزانه، إذ إن خطايا كهذه قد يقع فيها المؤمنون، وغالباً ما يحدث ذلك فعلاً. وإنما التجديف على الروح القدس قد يحدث فقط حينما يمثُل أمام الوعي إعلانٌ إلهيٌ غنيٌ وإنارةٌ قوية من الروح القدس بحيث إن الإنسان يقتنع تماماً في قلبه وفي ضميره بحق الإعلان الإلهي.[65]
فهذه الخطية تشمل بالأحرى على ما يفعله شخصٌ حظي بوافر الإعلان الموضوعي والاستنارة الذاتية. إلا أنه - رغم حقيقة كونه قد عرف الحق وذاقه باعتباره حقاً - يدعو الحق كاذباً ويندد بالمسيح كما لو كان، له المجد، أداةً بيد الشيطان. وفي هذه الخطية يصير الإنساني شيطانياً. لا، إنها ليست عبارةً عن الشك وعدم الإيمان، ولكنها تقطع احتمال هذين كما تقطع تأنيب الضمير والصلاة (1 يوحنا 5: 16). إذ تكون قد جاوزت بعيداً لحظة الشك وعدم الإيمان والتبكيت والصلاة. وبصرف النظر عن حقيقة كون الروح القدس يُعترَف به بوصفه روح الآب والابن، فإنه يُجدَّف عليه رغم ذلك بشر شيطاني. فعند الذروة، تُصبح الخطية صفيقة جداً في فجورها بحيث تنفض عنها كل أثرٍ من آثار الحياء، وتطرح جانباً كل ستر فتقف في عريها المعيب، وتزدري كل دواعي التعقل، وتقوم ضد حق الله ونعمته، يدفعها في ذلك سرورها بالشر وحسب. إنه إذاً لتحذير خطير هذا الذي يضعه المسيح أمامنا في تعليمه المختص بالتجديف على الروح القدس. ولكن علينا ألا ننسى ما يتضمنه هذا التعليم من تعزية: فإن كانت هذه الخطية هي الخطية التي لا تغفر، فسائر الخطايا الأخرى، حتى أعظمها وأكثرها قباحةً، يُمكن أن تغفر ذا لتعليم من تعزية: فإن كانت هذه الخطية هي الخطية التي لا تغفر، فسائر الخطايا الأخرى، حتى أعظمها وأكثرها قباحةُ، يُمكن أن تغفر حقاً. وهي تُغفر لا عن طريق الممارسات البشرية التكفيرية، بل بفضل غنى النعمة الإلهية.
وما دامت الخطية لا تُغفر ويُطهر منها إلا بالنعمة، فذلك يعني - فيما يعنيه - أنها في حد ذاتها تستحق القصاص. من هذه المُسَلمة ينطلق الكتاب المقدس حين يهدد الخطية بعقوبة الموت، حتى قبلما دخلت الخطية إلى العالم (تكوين 2: 17). ثم إن الكتاب ما ينفك يُعلن دينونة الله على الخطية، بصرف النظر عما إذا كانت تلك الدينونة تُجرَى فعلاً في هذه الحياة (خروج 20: 5) أو في يوم الدين العظيم (رومية 2: 5 - 10). ذلك لأن الله هو العادل القدوس الذي يكره كل شر.[66] والذي لا يبرئ المذنب بأي حال،[67] بل يُعلن غضبه على كل فجور وإثمٍ (رو 1: 18) ولعنته (تثنية 27: 26؛ غلاطية 3: 10) وانتقامه (ناحوم 1: 2؛ 1 تسالونيكي 4: 6)، وهو تعالى سيُجازي كل إنسان بحسب أعماله.[68] ويشهد الضمير لهذا في كل إنسان حين يلومه على أفكاره وأقواله وأفعاله الشريرة، وحين يطارده غالباً بإحساس الذنب والتبكُّت، أو الارتعاد والخوف من الدينونة. وعلى أساس هذه الفكرة المتعلقة بملومية الخطية واستحقاقها للعقاب يقوم إجراء القضاء عند جميع الشعوب.
غير أن القلب البشري يدخل دائماً أبداً في صراعٍ مع هذه الدينونة الشديدة لأنه يشعر أنه محكومٌ عليه بها. وغالباً ما دخل العلم والفلسفة في خدمة القلب فحاولا تقديم أسبابٍ بالغة الجاذبية لفصل العمل عن الجزاء، والشر عن العقاب. فكما أن الفن يجب أن يُمارس لأجل ذاته، فكذلك ينبغي - بحسب قياس التمثيل هذا - أن يتم فعل الخير لأجل ما هو في ذاته، لأن العقاب منوط به. ويزعمون أنه لا ثواب للفضيلة ولا عقاب للرذيلة. أما العقوبة الوحيدة المنوطة بالخطية، فهي العاقبة تجلبها معها حتما طبيعتُها الخاصة بسببٍ من الناموس الطبيعي. فكما ينعم الفاضل بسلام القلب، كذلك يشقى الخاطئ ويتعذب من جراء شعوره بالذنب والقلق والخوف، أو هو يُعاني سوء الصحة إذا كانت خطاياه من نوع الإدمان والانغماس في الشهوات.
في الزمن الحديث، وجَدَت هذه الفكرة المختصة بفساد القلب البشري وشره سنداً قوياً لها في نظرية التطور التي تذهب إلى أن الإنسان تحدر من الحيوان، وهو في صلب كيانه يبقى حيواناً، ولا بد له حتماً أن يفعل ما يفعله ويبقى على ما عليه. فليس الإنسان مخلوقاً حراً وعاقلاً أدبياً، ولا هو بمسؤول عن أفعاله، وليس ممكناً أن يؤاخذ على أعماله باعتباره مذنباً، إذ إنه هو ما يجب أن يكون وحسب. فمثلما توجد أزهار عطرة الرائحة وأخرى نتنة، ومثلما توجد حيوانات أليفة وأخرى مفترسة، هكذا يوجد أناس نافعون للمجتمع وآخرون ضارون. صحيح إن المجتمع، في سبيل الحفاظ على الذات، له الحق أن يميز أولئك الفارد الضارين ويحبسهم، غير أن هذا ليس عقاباً. فما من إنسانٍ فرد له الحق أن يحكم على الآخرين أو يدينهم. ذلك أن المجرمين ليسوا أشراراً بقدر ما هم فاقدو الصواب. فهم يُعانون ضعفاً موروثاً أو نوعاً من النقص غذّاه المجتمع بالذات وعزّزه. وعليه، فإن أناساً. كهؤلاء ليسوا أهلاً للسجن بل يحتاجون إلى علاج في المستشفى أو المصح حيث من حقِّهم أن يخضعوا لمعالجةٍ طبية أو تثقيفية تهذبهم إنسانياً.
على أنه من الواجب، إنصافاً للحقائق الواقعية، أن يُقال إن هذه النظرية الجديدة في الإجرام هي في جزءٍ منها ردة فعل على موقف متطرف آخر ذهب إليه قومٌ في الماضي. فبينما يعتبر المجرمون اليوم مرضى عقلياً، كان المرضى عقلياً وسائر المنكوبين في الماضي غالباً ما يُعتبرون مجرمين، وقد تفنن الناس في ابتكار وسائل من شأنها أن توقع أشد الآلام هولاً على الأشخاص الذين يُعتبرون مذنبين وأهلاً للقصاص. لكن مثل هذه الممارسات، وإن كانت تفسح المجال لترويج النظرية الجديدة، ليست مسوِّغاً لها ولا تُزكيها . فالفكرة الجديدة متميزة، شأنها شان القديمة، لكونها لا تُنصف فداحة الخطية بل تسلب الإنسان حريته وتهبط به إلى مستوى الحيوان، وتتحدى بكل وقاحة طبيعة الإنسان الأدبية بما فيها من ضمير وشعور بالذنب، وتقوِّض من حيث المبدأ كامل أساس السلطة والحكومة وإجراء القضاء.
وبغض النظر عن المحاولات التي يبذلها العلم للبرهنة على حتمية الخطية، فإن أي شخص لم يتبلَّد فيه الضمير ولم يفقد الحس بعد، يشعر في ذاته أنه مُلزَم أن يفعل الخير ومسؤول عن فعل الشر. فمن المؤكد أن رجاء الثواب ليس هو الدافع الوحيد والأهم لفعل الخير، كما أن خوف العقاب ربما لا يكون هو الدافع الوحيد الذي يحدو الناس على الكفِّ عن الشر. ولكن أي من يستجيب لهذين الدافعين الثانوييين فيفعل الخير ويمتنع عن الشر، وإن يكن بمعنىً خارجي فقط، يكونُ رغم ذلك في وضعٍ أفضل جداً ممن يتجاهل هذين الدافعين ويسترسل في العيشة بحسب أهوائه. أضف إلى هذا أن الفضيلة والسعادة، وكذلك الخطية والعقاب، مترابطٌ بعضها ببعض ليس فقط على سبيل تعاقب السبب والنتيجة وفقاً لاعتبار خارجي، بل هي متواجدة جميعاً في الإدراك الخُلُقي أيضاً منذ البداية. فإن محبة الخير الحقيقة الصادقة، أي ملء الشركة مع الله، تعني أن الإنسان بكليَّته يدخل إلى أعماق تلك الشركة، في السر والعلن على السواء. وبالخطية كذلك، بمثل هذا الشمول تنطوي عند اكتمالها على فساد الإنسان نفساً وجسداً.
إن العقوبة التي حددها الله لقاء الخطية هي الموت (تكوين 2: 7)، غير أن هذا الموت الجسدي العارض ليس وحده إذ تسبقه وتلحقه عقوبات أخرى عديدة.
حالما أخطأ الإنسان انفتحت عيناه، فخجل لأنه عريان واختبأ من وجه الرب (تكوين 3: 7 و 8). فالخزي والخوف عند الإنسان لا ينفصلان عن الخطية لأنه يشعر حالاً أنه مذنب ومدنَّس من جراء خطيته.
فالشعور بالذنب، وهو قريب الصلة بالعقاب، والتدنُّس أو التلوُّث، وهو فسادٌ أدبي، هما العاقبتان اللتان حصلتا حالاً بعد السقوط. ولكن فضلاً عن هذا النوع الطبيعي من العقوبة، أضاف الله أحكام قصاصٍ أخرى. فقد عوقبت المرأة من حيث هي أنثى وأم: فبالوضع تحمل الأولاد وتلدهم، إلا أن اشتياقها إلى زوجها يظلُّ فعالاً رغم ذلك (تك 3: 16). كذلك عوقب الرجل في الدعوة التي أوكلت إليه بتعهد الأرض بعمل يديه (تك 3: 17 - 19). حقاً إن الموت لم يحدث حالاً بعد التعدي، بل أُرجئ بالفعل مئات السنين، لأن الله لا يتخلى عن مقاصده من نحو الجنس البشري. غير أن الحياة الموهوبة الآن للإنسان تصير حياة معاناة للألم، مليئةً بالجهاد والحزن، توطئةً للموت، بل موتاً متواصلاً. فالإنسان لم يصبح مائتاً وحسب من جراء الخطية، بل إنه بدأ يموت. إنه يموت باستمرار من المهد إلى اللحد. إذ ليست حياته سوى معركة مع الموت قصيرةٍ وعبثية.
حقيقة تتجلى للعيان في الشكاوى الكثيرة التي يوردها الكتاب المقدس بخصوص هشاشة الحياة البشرية وزوالها المصيري وبطلانها. فالإنسان كان تراباً، حتى قبل سقوطه. ومن حيث الجسد، صُنع الإنسان من تراب الأرض، وهكذا كان ترابياً من الأرض، لكنه كان أيضاً نفساً حية (1 كورنثوس 15: 45، 47). غير أن حياة الإنسان الأول تلك كان مقصوداً لها أن تصير روحانية وممجدة إذ يسيطر عليها الروح في سبيل حفظ الناموس الإلهي. ولكن نتيجةً للتعدي، بات الناموس الفعال الآن هو هذا: أنك تراب، وإلى ترابٍ تعود (تك 3: 19).
فبدل أن يصير الإنسان روحاً، صار جسداً من جراء الخطية. وها حياته الآن ظلٌّ أو حلمٌ أو هزيعٌ من الليل، جسر عبور أو خطوة، موجةٌ من المحيط تعلو وتنكسر وتتلاشى، شعاعٌ من النور يتوهج ثم يخبو، زهرةٌ تتفتح ثم تذوي. وهي بالحقيقة لا تستحقُّ أن تُسَّمى "حياة"، هذه الاسم المجيد الزاخر بالمعنى. إنها موتٌ دائم في الخطية (يوحنا 8: 21، 24)، موتٌ بالخطايا والذنوب (أفسس 2:1).
تلك هي الحياة منظوراً إليها من الداخل، وقد أفسدت الخطية نواتَها وجرَّت عليها الوبال والانحلال. ثم إنها، من الخارج أيضاً، عرضةٌ في كل حين لمخاطر تأتيها من كل جهة. فبعد السقوط في التعدي مباشرةً، طُرد الإنسان من الجنة، ولا يجوز له الرجوع إليها بأي حق خاص به، إذ غُرِّم بفقدان حق الحياة، ولم يعُد مكان الراحة والسلام ذاك خليقاً بالإنسان الساقط. فكان يجب أن يخرج إلى العالم الفسيح ليكسب خبزه بعرق جبينه متمماً بذلك دعوته. إن الفردوس هو المسكن اللائق بالإنسان غير الساقط، والمُبارَكون يعيشون في السماء. أما الإنسان الخاطئ، وإن كان عتيداً أن يُفدى، فله الأرض مكان إقامة - أرض تشترك في عواقب سقوطه، وهي ملعونةٌ بسببه، وقد أُخضِعت وإياه للبُطل (رومية 8: 20).
وهكذا بتوافق الباطن والظاهر مرةً أخرى، إذ إن بين الإنسان ومحيطه انسجاماً. فالأرض التي نعيش على سطحها ليست نعيماً، إلا أنها كذلك ليست جحيماً. إنها بين هذا وذاك، ولها شيءٌ من خصائص كليهما. وليس في وسعنا أن نتبين على وجه الخصوص العلاقة القائمة بين خطايا البشر ومصائب الحياة. فالمسيح نفسُه حذر من فعل هذا، إذ قال إن الجليليين الذين خلط بيلاطس دماءهم بدماء ذبائحهم لم يكونوا خطاةً أكثر من سواهم (لوقا 13: 1- 3)، وإن الرجل المولود أعمى لم يكن معاقباً على خطاياه ولا على خطايا أبويه، بل ابتُلي بعلَّته لكي تظهر أعمال الله فيه (يوحنا 9: 3). فليس علينا إذاً أن نستدل من حقيقة نزول الآلام والمصائب بأحد الناس على أنه مستحقٌ ذلك بسبب ذنبه الشخصي. ومع أن أصحاب أيوب احتجوا بهذه الحجة، فقد تبين أنها باطلة.
على أنه ما من شك، بحسب تعليم كلمة الله كلها، أن ارتباطاً يقوم بين الجنسين البشري الساقط والأرض الساقطة. فكلاهما قد خُلِق منسجماً مع الآخر، وهما معاً أُخضعا للبُطل، وقد افتداهما المسيح كليهما من حيث المبدأ، ولسوف يقامان معاً ذات يوم ويمجدان. ومع أن العالم الحاضر ليس أفضل الممكن ولا أردأه، فإنه عالم صالح للإنسان الساقط. فلأن الأرض من تلقاء ذاتها تنبتُ فقط شوكاً وحسكاً، فهي تضطر الإنسان إلى العمل، وتصونه من الفساد، وتُنشئ في صميم قلبه رجاءً لا يُخمد بان سيكونُ بعدُ خيرٌ مقيم وسعادةٌ أبدية. رجاءٌ يجعل الإنسان يحيا، وإن تكن حياته قصيرة الأمد وملأى بعدم الاستقرار ليس إلا.
فإن كل حياة ما تزال للإنسان بحسب الطبيعة هي عرضةٌ لفساد الموت. وإذا كان الإنسان قوياً، يستمر في الجهاد سبعين سنة أو ثمانين، غير أن الحياة عادة ما تنقصف في مرحلةٍ أبكر كثيراً، في عز الشباب أو ريعان الصبا، وبُعَيد الولادة أو قبلَها أحياناً. ويقول الكتاب المقدس إن هذا الموت هو دينونة من الله، غرامة عقوبة على الخطية؛ وهذه الحقيقة يشعر بها قلب البشرية كلِّها وقلب كل بشري بمفرده. حتى الشعوب المسماة بدائية تصدر عن الفكرة القائلة بأن الإنسان في جوهره فان، وأن ما يعوزنا البرهان عليه ليس هو الخلود بل الموت الذي يحتاج إلى تفسير. إلا أن كثيرين، في الأزمنة القديمة والحديثة، قد اعتقدوا أن الموت بجملته ظاهرةٌ طبيعية وحتمية، لا بوصفه أمراً خارجياً يأتي من الخارج بعنف بل عملية انحلالٍ تحدث داخلياً. وبحسب هذه النظرة فإن الموت، في ذاته ليس رهيباً، إنما يبدو هكذا للإنسان لأن غريزة الحياة تقاومه. وحينما يحقق العلم في تقدُّمه فتوحات جديدة، سيؤول ذلك أكثر فأكثر إلى الحد من الموت المبكر وغلى رفع مستوى الموت الطبيعي من جراء فراغ القوى. حينئذٍ يموت الناس بسلام وهدوء كما الأزاهير إذ تذوي أو البهائم إذ تنفق.
ولكن رغم وجود قلةٍ ممن يتكلمون هكذا، هنالك بالحقيقة آخرون يعزفون لحناً آخر. فليس أهل العلم على وفاق، بأي حال من الأحوال، حول أسباب الموت وطبيعته. إذ في مقابل أولئك الذين يرون في الموت نهاية للحياة طبيعية وضرورية، كثيرون يجدون الموت لغزاً أكثر تحييراً حتى من الحياة، ويعلنون صراحةً أنه لا يوجد سبب واحد يحتم الموت على الكائنات الحية لضرورة ما داخلية. بل إنهم يقولون أيضاً إن الكون كان في الأصل كائناً حياً ضخماً إلى ما لا نهاية، وإن الموت أدخل عليه ملامحه فيما بعد، وإن هنالك بعض الحيوانات ما تزال غير ميتة. كلام يتشربه بشغف في الزمن الحاضر من يعتقدون أن النفوس كان لها وجود سابق ويعتبرون الموت تغييراً في الشكل يجتازه الإنسان في سبيل الارتقاء إلى حياةٍ أسمى - كاليُسروع الذي يصير فراشة.
واختلاف الآراء في حد ذاته بينةٌ على حقيقة كون العلم غير قادر على النفاذ إلى علل الأشياء الأساسية والنهائية، ولا قدرة له على تفسير الموت أكثر من قدرته على تفسير الحياة. فكلا هذين يظل لغزاً أمام العلم. ولحظة يحاول العلم أن يقدم تفسيراً، يتعرض لخطر قائم في ألا يُنصف إما حقيقة الموت وإما حقيقة الحياة. فإذا قال العلم إن الحياة في الأصل أزلية، يتعين عليه عندئذ أن يقدم جواباً عن السؤال: من أين جاء الموت؟ فهو يتحدث عنه كما لو كان مجرد مظهر أو تغيير في الشكل، وإلا فإنه يحاول فهمه كأمر طبيعي بجملته. وفي هذه الحال لا يدري ماذا يقول في الحياة، ويُلفي نفسه مضطراً إلى إنكار الخلود. وفي كلتا الحالين يمحو الخط الفاصل بين الموت والحياة، كما بين الخطية والقداسة.
وفي حين لا يبرهن العلم الإقرار بأن الموت أجرةٌ للخطية، فهو لا ينقض ذلك أيضاً. فهذا الأمر إنما يقع خارج نطاق البحث العلمي وبعيداً عن متناوله. ثم إن هذا الإقرار لا يحتاج إلى بيّنة يقدمها العلم. فهو مؤسس على الشهادة الإلهية ومؤكد ساعة فساعة بالخوف من الموت الذي به يخضع الناس للعبودية كل حياتهم (عبرانيين 2: 15). فمهما قيل إذاً في مجال البرهنة على ضرورة الموت، أو الدفاع عن شرعيّته، فهو يبقى أمراً غير طبيعي. إنه غير طبيعي نظراً لجوهر الإنسان ومصيره فيما يتعلق بخلقه على صورة الله، لأن الشركة مع الله تتعارض والموت. فالله ليس إله أموات، بل إله أحياء (متى 22: 32). وعلى نقيض هذا، فالموت طبيعي كلياً نسبة إلى الإنسان الساقط، إذ أن الخطية متى كملت تُنتج موتاً (يعقوب 1: 15). ورغم كل شيء، فبحسب الكتاب المقدس يجب عدم المساواة بين الموت والفناء، كما يجب عدم اعتبار الحياة محتوية على مجرد الوجود الخالص. فالحياة تمتُّعٌ وغبطة بركة ووفرة فياضة، أما الموت فشقاء وفقر وجوع وافتقار إلى السلام والسعادة. الموت انحلالٌ وانفصال لِما ينتمي بعضُه إلى بعض. فالإنسان المخلوق على صورة الله، مقامه الشركة مع الله، حيث يحيا ملء الحياة وفي سعادة إلى الأبد. لكنه متى فصم عري هذه الشركة، يموت في تلك اللحظة عينها ويظل يموت بعد ذلك دائماً أبداً. فتُحرم حياتُه الفرح والسلام وغبطة البركة إذ يكون قد أصبح ميتاً بالخطية. وهذا الموت الروحي، هذا الانفصال بين الله والإنسان، يستمر في الجسد ويبلغ ذروته في الموت الأبدي. ذلك أن مصير الإنسان الأبدي يكون قد خُتم عليه عند انفصال النفس عن الجسد، غير أن وجوده لا ينتهي عندئذٍ. فإنه قد وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة (عبرانيين 9: 27).. ومن ذا يستطيع الوقوف في تلك الدينونة؟
(57) مز 6؛ 25: 32؛ 34، 51؛ 130؛ 143.
(58) إر 3: 25؛ إش 6: 5؛ 53: 4 – 6؛ 64: 6؛ دا 9: 5 وما يلي؛ مز 106: 6.
(59) مر 1: 15؛ 6: 12؛ أي 3: 3.
(60) يو 1: 3؛ كو 1: 16؛ عب 1: 2.
(61) خر 4: 21؛ 7: 3؛ 9: 12؛ 10: 20، 27.
(62) خر 7: 14؛ 9: 7؛ 9: 35.
(63) خر 8: 15، 19، 32؛ 9: 34.
(64) 1 صم 6: 6؛ 2 أي 36: 13؛ مز 65: 8؛ مت 13: 15؛ أع 19: 9؛ رو 11: 7، 25.
(65) عب 6: 4 – 8؛ 10: 25- 29؛ 12: 15 - 17.
(66) أي 34: 10؛ مز 5: 5؛ مز 45: 7.
(67) خر 34: 7؛ عد 14: 18.
(68) مز 62: 12؛ أي 34: 11؛ أم 24: 12؛ إر 32: 19؛ حز 33: 20؛ مت 16: 27؛ رو 2: 6؛ 2 كو 5: 10؛ ا بط 1: 17؛ رؤ 22: 12.
- عدد الزيارات: 480